بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وترتيبه, وأدب نبيه سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه, وزكى أوصافه وأخلاقه ثم اتخذه صفيه وخليله وحبيبه, ووفق للاقتداء به من أراد تكميله وتهذيبه, وحرم عن التخلق بأخلاقه من أراد إبعاده وتخييبه, وصلى الله وسلم وبارك وعظم وشرف على سيد المرسلين وأكملهم وأعظمهم خَلقاً وخُلقاً, وعلى آله الطيبين الطاهرين, وصحابته الأطهار الأخيار الأبرار الأتقياء الأصفياء الأوفياء الأولياء, وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين, بعدد ما خلق الله وذرأ وبرأ, وألحقنا الله بهم أجمعين. آمين. آمين. آمين.
أما بعد: فإن الآداب والأخلاق الظاهرة عنوان آداب وأخلاق البواطن, ومن كان باطنه مشكاة للأنوار الإلهية فاض على ظاهره جمال الآداب النبوية, نسأل الله تعالى أن ينور قلوبنا بنوره, ويجمل ظاهرنا بآداب نبيه وأخلاقه صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
ونحن اليوم بأمس الحاجة للعودة إلى أخلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, وإلى آدابه الزكية الطاهرة التي نحقق من خلالها سعادة الدنيا والآخرة, فهو صلى الله عليه وسلم أسوتنا وقدوتنا {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} وبذلك أمرنا {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}.
فهو صلى الله عليه وسلم دُعي إلى الأخلاق والآداب بأمر الله عز وجل فتحلى بذلك وتخلق, قال له مولانا: {واخفض جناحك للمؤمنين} فخفض جناحه صلى الله عليه وسلم حتى إذا ما دخل الأعرابي عليه صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه قال الأعرابي: أيكم محمد؟
وقال له مولانا جل جلاله: {فبما رحمة من الله لنت لهم} فكان صلى الله عليه وسلم لين الجانب مع خلق الله جميعاً, وشهد له بذلك القاصي والداني, المؤمن والكافر.
وبعد ما أن دُعي إلى الآداب والأخلاق وتحلى بها, حتى صار كما قالت السيدة الطاهرة المبرأة أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر الناس, وأكرم الناس, بساماً ضحاكاً. أخرجه ابن سعد.
وكما يقول سيدنا أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ الناس لطفاً, وما رأيت أحداً أرحمَ بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم.
بعد هذا قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بأبي وأمي هو -: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) أخرجه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً, الموطؤون أكنافاً, الذين يألفون ويؤلفون, وإن أبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون المتشدقون المتفيهقون) أخرجه أحمد في مسنده. الثرثارون: الذين يكثرون الكلام. المتشدقون: المتوسعون في الكلام. المتفيهقون: المتكبرون.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء أثقلَ في الميزان من حسن الخلق) رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً) رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) رواه أحمد.
وبعد هذه الأحاديث الشريفة, كان صلى الله عليه وسلم يدعو, لنتعلم منه الدعاء: (اللهم كما أحسنت خَلْقي أحسن خُلُقي).
إخوتي وأحبتي في الله: يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن, ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض, ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة.
وقيل: أدب في العمل علامة قبول العمل.
فالأدب والأخلاق عُنوان سعادة المرء وفلاحه, وقلة أدبه عُنوان شقاوته وبواره.
وما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأخلاق والأدب, ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب.
انظر أخي الحبيب إلى الأدب مع الوالدين, كيف نجى صاحبه من حبس الغار حين أطبعت عليهم الصخرة, فقد روى البخاري عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: انْطَلَقَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ, فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِم الغَارَ, فَقَالُوا: إِنَّهُ لا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْتُ لا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلا مَالاً, فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا, فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً, فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ, فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا, اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ, فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ, قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ, فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّي, حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنْ السِّنِينَ فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَفَعَلَتْ, حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ: لا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلا بِحَقِّهِ, فَتَحَرَّجْتُ مِنْ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ, وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا, اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ, فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ, غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ, فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي, فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنْ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالرَّقِيقِ, فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لا تَسْتَهْزِئُ بِي, فَقُلْتُ: إِنِّي لا أَسْتَهْزِئُ بِكَ, فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا, اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ, فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ, فَخَرَجُوا يَمْشُونَ.
وانظر إلى الإخلال به مع الأم تأويلاً وإقبالاً على الصلاة كيف امتُحن صاحبه بهدم صومعته وضرب الناس له, ورميه بالفاحشة, فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلا ثَلاثَةٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ, وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلاً عَابِدًا فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً, فَكَانَ فِيهَا, فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ, فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلاتِي, فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ, فَانْصَرَفَتْ, فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ, فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلاتِي, فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ فَانْصَرَفَتْ, فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ, فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلاتِي فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ, فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ المُومِسَاتِ, فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ, وَكَانَتْ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا, فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ, قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا, فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا, فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ, فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ, فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ, فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ, فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاؤُوا بِهِ فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ, فَصَلَّى, فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ وَقَالَ: يَا غُلامُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلانٌ الرَّاعِي, قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ, وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ: لا أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ, فَفَعَلُوا.
فالأدب والأخلاق يا إخوتي اجعلوهما الهدف في حياتكم, وأستودعكم الله تعالى على أمل اللقاء عن قريب, لنتعلم الأدب أولاً مع الله عز وجل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.