الهجرة من العادات إلي العبادات
بسم الله الرحمن الرحيم
مع بداية العام الهجرى الجديد ينظر المؤمن إلى عباداته فإن وجد في عباداته تكاسلاً أو تراخياً أو قلة إخبات وخشوع وخضوع رجع إلى نفسه ليصلح من شأنه فإن وجد نفسه يصلي الصبح بعد شروق الشمس فليبكي بدل الدمع دماً وإذا وجد أن نفسه لا تتأسف على ذلك ولا تحزن على ذلك فإن الذي يستيقظ من نومه بعد الشمس ولا يجد في قلبه لوماً ولا توبيخاً ولا تعنيفاً لنفسه فقد سقط من عين الله
لأن من عظمة الله جعله يعظم فرائضه ومن سقط من عين الله جعله يتكاسل ويتراخى عن فرائضه وقد وصف بذلك المنافقين فقال {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} النساء142
وقال صلى الله عليه وسلم: {بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ شُهُودُ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ ، لاَ يَسْتَطِيعُونَهُمَا}{1}
وقال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: {أتى علينا وقت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يتخلف عن صلاة الجماعة في وقتها
إلا منافق ظاهر النفاق}
فيتخلص من أمثال هذه العادات وأيضاً إذا وجد نفسه يجلس يتحدث أو يجلس وليس له عمل ويستمع إلى الآذان ولا يجد من نفسه عزيمة ولا حركة لتلبية الآذان في وقته فليعلم علم اليقين أنه في هذا الوقت ممن باءوا بالخذلان من الرحمن عز وجل
لأن الله لا يحضر أمام حضرته في الصف الأول في الوقت الأول إلا من يحبه عز وجل ، وفى الأثر كما أسلفنا: {إذا أحب الله عبداً سخره لأفضل الأعمال في أفضل الأوقات} وقد قال له سيدنا جابر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا}{2}
ثم بعد ذلك يكون للمسلم وقفة مع عاداته فإن كانت عاداته توافق شرع الله حمد الله عليها وذلك كعاداته في أكله وفي شربه وفي زيه وفي نومه وفى مشيه وفي حديثه وفي جلوسه مع الآخرين فإن كان من الذين {إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}الفرقان67
فرح وبشر نفسه لأنه من عباد الرحمن
أما إذا كان مقتراً على نفسه وأهله مع السعة أو مبذراً فإن هذه علامة أن الله لا يحبه لقوله عز وجل {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} الأنعام141
وقوله {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} الإسراء27
فمثلاً إن كان يشرب دخاناً فالله أمرنا أن نشكره على النعم ومن أجل النعم نعمة المال وهل يليق بمؤمن أعطاه الله المال أن يشكره بحرق هذا المال؟ هذا مع أنه يحرق مع المال صدره ورئتيه وأعضاء جسمه لا يحرق المال فقط بل يضر نفسه ويضيق على أهل بيته فليهجر هذه العادة الذميمة مع مطلع العام الهجري الجديد ليكون من المهاجرين {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ما جزاؤهم؟ {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الحشر8
إذا كان يجالس بعض الغافلين الذين يخوضون بالباطل في أعراض الآخرين ولا يتورعون عن الغيبة والنميمة فليمتثل لقول ملك الملوك عز وجل {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى
مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الأنعام68
يهجر هذه المجالس ويجالس الذين أمر الله المؤمنين أن يجالسوهم في قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} التوبة119
وكذلك إذا كان له عادات في مشيه وفي نومه وفي حديثه لا تطابق ما ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله فليهجرها ليكون مهاجراً وكذلك في معاملاته ، فالرجل الصالح في زماننا هو الذي يتعامل مع الخلق على سنة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم
فلو كانت الكذبة الواحدة ستدر عليه ملايين الدولارات يرفضها ويأباها لأن فيها مخالفة لله ومخالفة لحَبيب الله ومُصطفاه صلى الله عليه وسلم ويكفي أن الكاذب يدخل في قول الله {فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} آل عمران61
فلا يدخل في لهو ولا في مزاح ولا في جد لا مع صبيان ولا مع أهله ولا مع إخوانه لأن المؤمن الصادق في كل أقواله وأعماله فيتحرى في تعامله مع إخوانه أن يكون من المؤمنين وهذا يقتضي أن يتبرأ من الغش لقول سيد الأولين والآخرين: {مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا}{3}
فلا يغش الأمة أو أي فرد من الأمة في نصيحة أو في قول أو في عمل أو في بيع أو في شراء أو ما شابه ذلك فلو طالبه إنسان بنصيحة وقال خلاف ما يعرف ويعلم إن ذلك خلاف الحقيقة فهو غش يحاسب عليه يوم الدين وما أكثر الغشاشين في زماننا بهذه الطريقة
المهاجر هو الذي يهجر من نفسه خلقاً ذميماً أو عادة سيئة أو معاملة غير طيبة وقد قال الإمام أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه {ليست الكرامة أن تطير في الهواء لأن أي طائر يفعل ذلك ، ولا أن تمشي على الماء لأن الأسماك تستطيع ذلك ، ولا أن تقطع ما بين المشرق والمغرب في لحظة لأن إبليس يفعل ذلك ولكن الكرامة أن تغير خلقاً سيئاً فيك بخلق حسن}
وهذه هي العظة الكبرى من الهجرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم استطاع أن يغير أخلاق العرب من الفسق والفجور والظلم والكبرياء واللهو والمجون والفخر بالآباء والأجداد والأحساب والأنساب إلى فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ، قال صلى الله عليه وسلم: {المهاجِرُ مَن هَجرَ ما نَهى اللّهُ عنه}
{1} رواه الطبراني في الكبير عن قتادة، والأوسط عن عائشة
{2} رواه مسلم عن ابن مسعود، والخطيب عن أنس والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود
{3} رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في سننه وابن حبان في صحيحه
عن أبي هريرة