"الرتبة الثانية من مراتب الولاية: أن يتنـزَّل إلى رتبة بطن أمه، فيشاهد أنه كان ماء مهيناً في ظلام الأحشاء، وقد تولاَّه "الولي" بأنوار الأسماء، فيتجلَّى له نور "البصير،"السميع".
فإذا تنـزَّلت إلى هذا المشهد، وخلعت الأنانية والحيثية، ورجعت إلى أصلك واجهتك هذه الأسماء، وتجمَّلت بمعانيها، وهذه رتبة من مراتب الأولياء، الذين تجمَّلوا بالعطاء، وسبحوا في بحار الأسماء، وانجلى لهم أصلهم؛ وهو الماء، فرجعوا إليه شهوداً وذكراً، فرفع الله لهم بين العوالم قدرا..... يقول أحدهم: "الله" وهو مستحضر أنه "المصوِّر، الجميل، السميع، البصير، المحيي ، النافع " فيرجع إلى أصله فيفوز بوصله. المرتبة الثالثة: تتنـزَّل إلى رتبة التراب، فيشهدك الحق أنك كنت متفرقاً في عناصر الوجود، فجمع الله حقيقتك من تراب، ولحم، وفاكهة، وحوَّلها إلى منيّ هو أصلك، وعند ذلك يتجلَّى لك أنوار اسمه تعالى:" الحكيم، الخبير، المحيط، الحفيظ، اللطيف، القريب، الرحيم". فمتى دخلت في هذا المشهد، وخلعت الأنانية، وذكرت الله مستحضراً معاني الأسماء، فانياً عن كل ما أحاط بك، أو نسب إليك من الآلاء، انفعلتْ لك الحقائق، وفُزتَ بالدقائق، وتشهد أن الأسماء التي تولَّتك في تلك المواطن، هي التي تتولاَّك هناك. فإذا ذكرت الله وأنت تلاحظ تلك المعاني الخفية، تاركاً المظاهر البشرية، شاهدت الأمر على ما هو عليه، فإن الأسماء التي تولَّتك في تلك المواطن هي التي تواجهك الآن بالأسرار. وجميع التطورات في نظر الله واحدة، والذي حجبك هو الأنانية (1) . المرتبة الرابعة: أن تتنـزَّل من رتبة الأرض إلى رتبة العدم، وتفهم معنى قوله تعالى" {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا }(2) . فترى العدم على أصله لم يتحوَّل، وترى نور القدم تجلَّى، فأبرز العدم في صورة الوجود، وعند ذلك يصبح العبد مشرقاً لشمس الحقيقة، إماماً لكل أهل الطريقة (3) ." اهـ اقتباس:============================= الحاشية ============================= (1) : الأنانية : هي الحقيقة يضاف إليها كل شيء من العبد كقوله: روحي، ونفسي، وقلبي، ويدي، ومالي.... . (2) : سورة مريم – الآية 9. (3) : الطريقة: هي السيرة المختصَّة بالسالكين إلى الله تعالى من قطع المنازل والترقِّي في المقامات. وقيل: العمل هو حركة الجسم والقلب والفكر، فإن تحرَّك بما يوافق الشريعة سمي طاعة. وإن تحرك بما يخالف الشريعة سمي معصية، لذلك أجمعوا على أن الشريعة: لإصلاح الظواهر، والطريقة: لإصلاح الضمائر، والحقيقة: لإصلاح السرائر. " اهـ 165 (يتبع إن شاء الله تعالى مع: العلم كلُّه في العالَم كلِّه..... ) |
العلم كلُّه في العالَم كلِّه
"مهما أوتيت من علم فاعتقد أن فوقك من هو أعلم منك، وما من كائن إلا وفيه معنى سرٍّ من أسماء الله ، لا تناله منه إلا بالتواضع له والاحترام. فلا تتكبَّر على أي رتبة من رتب الكون، فالظاهر فيها هو "المعطي" تعالى، وقد قال الإمام أبو العزائم:" إن الرجل الذي يتكمَّل بالعلم حتى تنطوي فيه معانيه، وحتى يأخذ دروس الحكمة في النمل والنحل، والحيوانات، وجميع الكائنات، ولا ينظر إلى أنه مكمِّل لغيره، مثل الشمعة تحترق لتضيء على غيرها، والبعض يضيع الأنفاس بدون أن يحصِّل كمالاً لنفسه، لأنه متى رأى نفسه كاملاً مكمِّلاً لغيره اغترَّ وتكبَّر. إن معاني أسماء الله الحسنى ظهرت أسرارها في العبد ففيه الحياة، والسمع، والبصر. وفيه سرُّ القدرة والإرادة. وفيه الجمال الإلهي (1) ، والحسن الباهي، وجميع الأسماء تعينه في حركته وسكونه، وفي يقظته ونومه. فإذا عرف ما تجلَّى فيه له من الله، فقد عرف سيِّدَه ومولاه، وانظر إلى هذا المثل ففيه غاية الأمل : الكون كله مملكة يتصرَّف فيه الربُّ الكبير، وجسمك هذا مملكة تصرَّفت فيها الروح بأمر مقدور له جنود في الأرض والسموات، ولك جنود وهي الجوارح لقضاء الحاجات، ولله عرشٌ عظيم، وقلبك يمثِّل العرش، وهو واسعٌ لأسرار العليم. فلا تغفل عن شهود أنوار أسمائه فيك وفي الآفاق، واحذر أن تنسبها لنفسك فتقع في الحجاب والنفاق." اهـ 168 اقتباس:====================== الحاشية ======================= (1) : الجمال الإلهي: هو عبارة عن أوصافه العليا وأسمائه الحسنى، هذا على العموم، وأما على الخصوص: فصفة الرحمة وصفة العلم، وصفة اللطف، والنعم، والجود، والرزَّاقية، والخلاَّقيَّة، وصفة النفع، وأمثال ذلك كلها صفات جمال. وثَمَّ صفات مشتركة لها وجه إلى الجمال ووجهٌ إلى الجلال، كاسمه تعالى:"الرب"، فإنه باعتبار التربية والإنشاء : اسم جمال، وباعتبار الربوبية والقدرة: اسم جلال. ومثله اسم: "الله". واسمه " الرحمن" بخلاف اسم " الرحيم"، فإنه اسم جمال وقس على ذلك. واعلم - رحمني الله وإياك - أن جمال الحق سبحانه وتعالى وإن كان متنوِّعاً فهو نوعان: النوع الأول معنوي، وهو معاني أسماء الله الحسى، والأوصاف العلا، وهذا النوع مختصٌّ بشهود الحقّ إيَّاه. والنوع الثاني: صوري، هو هذا العالم المطلق المعبّر عنه بالمخلوقات، وعلى تفاريعه وأنواعه، فهو حسن مطلق، إلهي، ظهر في مجال الهيئة، سميت تلك المجالي بالخلق، وهذه التسمية أيضاً من جملة الحسن الإلهي، فالقبيح من العالم كالمليح منه، باعتبار كونه مجلى من مجالي الجمال الإلهي، لا باعتبار تنوُّع الجمال، فإن من الحسن أيضاً إبراز جنس القبيح على قبحه، لحفظ مرتبته في الوجود، كما أن الحسن الإلهي إبراز جنس الحسن على وجه حسنه لحفظ مرتبته من الوجود. وإن القبح في الأشياء إنما هو للاعتبار لا لنفس ذلك الشيء، فلا يوجد في العالم قبحٌ إلا بالاعتبار، فارتفع حكم القبح المطلق من الوجود، فلم يبق إلا الحسن المطلق، ألا ترى إلى قبح المعاصي إنما ظهر باعتبار النهي، وقبح الرائحة المنتنة إنما ثبت باعتبار من لا يلائم طبعه." اهـ (يتبع إن شاء الله تعالى مع: معرفة الذات الأحدية والأسماء.... ) |
معرفة الذات الأحدية والأسماء ( 1 )
حضرة الذات في غيوب الغيوب = في بطون عن واصلٍ محبوب فوق أسمائها وفوق صفات = فوق قدر الأرواح ، فوق القلوب هي في الطَّمس والعماء تعالت = عن إشارات سابق ومنيبِ آمن المرسلون بالغيب منها = سلم الأصفياء بالترحيبِ ثمَّ للذات حضرةٌ تتجلَّى = بألوهيةٍ لفردٍ قريبِ حضرةٌ حيَّرتْ عقول البرايا = جمعت ضدَّين باقتدارٍ عجيبِ يظهر الحقُّ، يظهر الخلقُ فيها = طلعت شمسها بغير غروبِ يتراءى عبدٌ ذليلٌ ضعيفٌ =يتجلَّى القوي للمطلوبِ هي شمسٌ تمحو ظلام المباني = تتراءى أسماؤها للحبيبِ ثُم لله حضرةٌ تتجلَّى =وهو رحمنٌ فوق عرش القلوبِ تشمل الرحمةُ العوالم حقاً =لمطيعٍ تعمُّ أهل الذنوبِ ثُمَّ لله حضرةٌ تتجلَّى =وهو ربُّ العباد ماحي الكروبِ يظهر العبد بالخلافة عنه =ويطيع الورى لعبد نجيبِ إن تجلَّى بحضرة العزِّ ذابت =من جلال المقام أهل القلوبِ أو تجلَّى بحضرة اللطف هامت =أنفس المغرمين بالمحبوبِ إن تجلَّى "الرحيمُ" أحيا البرايا =راحمُ الكلِّ ساتر العيوبِ أو تجلَّى "القهَّار" ذلَّت خشوعاً =أنفس الأنبياء في ترهيبِ أو تجلَّى "الكريم" طمأَنَ قلباً =نال أمناً وهام في ترغيبِ أو تجلَّى "السَّتّار" جلَّ تعالى =ستر العبدَ من جميع الذنوبِ حضرات الجمال (2) تُحيي وتبقي =تتجلَّى لكلِّ صَبٍّ أديبِ حضرات الجلال (3) تمحو وتُفني =تجعل الطفل عندها في المشيبِ حضرات الكمال ميراثُ طه (4) =بين خوفٍ وبين أمنٍ عجيبِ فتوسَّط في السير فالدين يسرٌ =وتهنَّى بخالص المشروبِ واعرف الله في جميع التجلَّي =وتحلَّ منه بخيرِ نصيبِ إن عرفتَ "الودودَ" يعطيك فضلاً =فاعرف"العدل" في حساب "الحسيب إن عرفت"الغفَّار" للذنب فاعرف =شدَّة"الحقِّ" عند كشف الغيوبِ يتجلَّى بالعطف فينا ينادي: =رحمتي واسعه لأهل الخطوبِ يتجلَّى بالكبرياء ينادي =يا عبادي ! لا تأمنوا تعذيبي إنَّ مكري فوق العقول خفيٌّ =فلهذا يخشاه كل لبيبِ فاطلب الذات فهي منها إليها =كلُّ أسمائها بغير غروبِ إن أسماءها تجلَّت حناناً =لك يا عبدُ وهي غيب الغيوبِ كن مع الذات، وحِّدِ الله وانهج =سُنَّةَ المصطفى بصدرٍ رحيبِ عُرِضَ الملك والكنوزُ عليه (5) =طرحَ الكُلَّ مقبلاً للرقيبِ هو عبدٌ للذَّات وهو مرادٌ =وهو كنـزٌ فالزم طريق الحبيبِ اقتباس:============================= الحاشية ===================== (1) : وهي قصيدة من نظم المؤلف رضي الله تعالى عنه وأرضاه. (2) : وذلك بمشاهدة القلوب بالأنوار والسرور، والألطاف، والكلام اللذيذ، والحديث الأنيس، والبشارة بالمواهب الجسام، والمنازل العالية، والقرب منه عز وجل. (3) : والجلال نعت إلهي يعطي في القلوب هيبة وتعظيماً وبه ظهر اسم الجليل، وحكم هذا الاسم من أعجب الأحكام، فإن له حكم { ليس كمثله شيء }، {;سبحان ربك رب العزة } ;.فمن حضرة الجلال ظهرت الألوهة وعجز الخلق عن المعرفة بها، ومن هذا الاسم يعلم سر الخلق في الأرض لما فيهم من نسبة الباطن وجهرهم لما فيهم من نسبة الظاهر، لارتفاعهم عن تأثير الأركان، فكل عظيم فهو جليل، وكل حقير فهو جليل، فهو من الأضداد. قيل لأبي سعيد الخرَّاز - رضي الله عنه - : بم عرفت الله؟. فقال: بجمعه بين الضدَّين قائلاً: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِن }. يعني من عين == واحدة، وفي عين واحدة. ذكره سيدي محيي الدين بن عربي - رضي الله عنه - في الفتوحات 4/251. (4) : سيدي وسيد الكائنات، حبيب الحق ومنقذ الخلق محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عدد خلقه وزنة عرشه ومداد كلماته كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون. (5) : الضمير هنا عائد على حضرة النبي سيدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أن عرضت عليه قريش أن يكون ملكاً عليها، مقابل أن يعود عن دعوته التي أرسله الله بها!. فأبى عليهم وقال لعمه أبي طالب : والله يا عمِّ! لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أدع هذا الدين ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه. " اهـ172 (يتبع إن شاء الله تعالى.... ) |
الباب الرابع
شرح الأســــــماء الحسنى ودعــــــاؤها الله جلَّ جلاله "إنَّ هذا الاسم علمٌ على الذات العليَّة، المنزَّهة عن الحدود، وهو اسم الله الأعظم، الجامع لكل معاني الأسماء الحسنى، ولا يسمَّى به إلا هو - عزَّ وجلّ-. وإذا قلت: يا الله! تجيبك جميع الأسماء، كأنك قلت: يا رحيم، يا كريم، يا معطي. إلى آخر الأسماء. فقلبك يستحضر معاني الأسماء ، ولسانك يقول:"الله" فيتجلَّى الحقُّ للذاكر العارف في جلالة وعَظَمة خضعت لها الأعناق بالركوع والسجود. قال تعالى: { وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ }(1) . ويتجلَّى للذَّاكر بجمالٍ لاح على صفحات الوجود، ويجذب الألباب، ويبهر الأرواح بالشهود، وتتجلى لك الحضرات والإمدادات والجمالات، والجلالات، والآيات ، والبينات، وما فيها تحت سلطان الألوهية.... . فالعارف بالله يرى نفسه أحقر من الذَّر، لظهور العظمة، وتجلِّي الحضرة العلية، ويرى نفسه أسعد الخلق وأغناهم، لأنه صار عبداً للغني العلي الكبير، فهو العبد الذَّليل لله، العزيز بالله، الفقير لله، الغني بالله، لا ينظر إلى معاني الأسماء من حيث الألفاظ اللغوية، ولكن يتوجَّه إليها من معانهيا النورانية، وآثارها البهية. وليس للعبد من هذا الاسم حظٌّ إلا التعلُّق به ذكراً وحضوراً واستحضاراً، حتى يتلاشى تحت سواطع الأنوار، فيحصل له الوَلَه، والذُّهول عن الآثار، وعند ذلك يشهد مولى ليس كمثله شيء، وهو أقرب إلينا من كل شيء (2) " اهـ اقتباس:========================== الحاشية =====================. (1) : سورة الرعد – الآية 15. (2) : قال الشيخ زروق رضي الله عنه: كل الأسماء يصح لمعانيها التخلق إلا هذا الاسم فإنه للتعلق ، وكل الأسماء راجعة إليه ، فالمعرفة به معرفة بها ، وهو دال بصيغته على عظمة المسمى به ، ذاتاً ، وصفاتٍ ، وأسماءً ، وما يرجع لذلك من أفعاله . والمعرفة به تفيد الفناء فيه للعارفين ، والتعظيم والإجلال ، والهيبة والأنس للمريدين ، والتقرب به على وفق ذلك من إسقاط الهوى ، ومحبة المولى ، ولا يصح ذلك إلا بقلب مفرد فيه توحيد مجرد ، وذلك يستدعي جميع الأحوال والمقامات والكرامات ، فلذلك لما سئل الجنيد رضي الله عنه: كيف السبيل إلى الانقطاع إلى الله تعالى ؟. قال: بتوبة تزيل الإصرار ، وخوف يزيل التسويف ، ورجاء يبعث على مسالك الأعمال ، وإهانة النفس بقربها من الأجل وبعدها من الأمل . قيل له : بماذا يصل العبد إلى هذا ؟ قال: بقلب مفرد فيه توحيد مجرّد، انتهى. قال سيدي ابن عجيبة في شرحه لهذا الاسم: " قلت: وقول الشيخ زروق رضي الله عنه : لا يصلح هذا الاسم إلا للتعلق دون التخلق، إنما هو مذهب أهل الظاهر، وأما مذهب أهل التحقيق من أهل الباطن فهو يصلح للتعلق ، والتخلق . والتخلق به: هو الفناء فيه ، والاستهلاك في الحقيقة بحيث يفنى من لم يكن ، ويبقى من لم يزل . وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : إن لله عباداً محق أفعالهم بأفعاله ، وأوصافهم بأوصافه ، وذاتهم بذاته، وحملهم من أسراره ما تعجز الأولياء عن حمله ، انتهى. وقال القطب شيخ شيوخنا ، ومادة طريقتنا مولانا عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه ، ونفعنا ببركاته - لما تكلم على المحبة - قال :والمحبة مزج الأوصاف بالأوصاف، والأخلاق بالأخلاق ، والأنوار بالأنوار ، والأسماء بالأسماء، والنعوت بالنعوت ، والأفعال بالأفعال، انتهى . فتحصل: أن التخلق باسم الجلالة هو : الفناء فيه ، والغيبة عما سواه . قال الغزالي رضي الله عنه : ينبغي أن يكون حظ العبد من هذا الاسم التألّه، وأعني: أن يكون مستغرق القلب والهمة بالله تعالى ، لا يرى غيره ، ولا يلتفت إلى سواه ، ولا يرجو، ولايخاف إلا إياه ، وكيف لا يكون كذلك وقد فهم من هذا الاسم أنه الموجود الحقيقي الحق ، وكل ما سواه هالك وفان ، وباطل إلا به ، فيرى أولاً نفسه هالكاً ، وباطلاً . كما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: أصدق بيت قالته العرب بيت لبيد:- ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** وكل نعيم لا محالة زائل وقال بعض من شرح الأسماء : وأما التخلق بهذا الاسم : فاتصاف بكل وصف كمال، بقدر ما يمكن في طور العبد ، وبحسب استعداد الخاصة مثل الأنبياء ، والمجذوبين ، والمحبوبين من الأولياء ، وقد يكون بالمجاهدات البالغة ، والرياضة الشاقة ، وتهذيب الأخلاق ، وتبديل الأوصاف ، وقد يكون بنتائج التجليات، وثمرات المشاهدات ، ثم قال: وأما التحقق بحقائق هذا الاسم فهو : أن تطلع شمسه من مشرق قلبه ، وتنوّرٌ من العبد سارياً في كليته وسرائره ،شاملاً لظواهره وضمائره ، فيفنى اسمه ورسمه ، ويلطف قلبه وروحه، بل جسمه ، فيبدل الحدوث بالقدم ، والظلمات بالأنوار ، ويعوضه من ليل الحجاب نهار الإبهار ، فيفنى ثم يبقى ، بوجود موجود حقاني ، ويخفى ثم يبقى بوصف كريم رباني، ويكون الحق سمعه ، وبصره ، ويده ، به يسمع ، وبه يبصر، وبه يبطش ، بل يكون بكليته ما لا يصفه الواصفون ، ولا يحيط به العارفون ، انتهى ." اهـ177 (يتبع إن شاء الله تعالى .... ) |
"وحضرة الألوهية حضرة الغنى المطلق، والعز المحقَّق.
يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه سيد الخلائق - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: { وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (1) . فحضرة الألوهية ترتعد من عزتها فرائص المقرَّبين. والعارف بالله لا يأمن مكر الله، ولو صرَّفه الله في العوالم، ولا ييأس من روح الله، ولو انغمس في الذنوب العظائم، لا يرى في الوجود مخلوقاً أنقص من نفسه، ولا يتعالى على مخلوق ، وتأخذه الغيرة بالله على انتهاك الحرمات، وهو فانٍ عن نفسه، وحظِّه، وجميع الشهوات، عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل، فلم يرتكن على مخلوق لأنه رأى إشراقة الجمال فتنعَّم بشهودها، وشرب الطهور من قول الله تعالى:{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } (2) . انطوت العبارة، وانكشفت حقائق الآثار، فشاهد العدم بارزاً بنور القدم، فقال: " سبحانك يا قدير! يا من أقمت العبد في صورة "السميع، البصير". ومن أراد أن يتنعَّم بشهود الحضرة فعليه أولاً أن يتطهَّر من الذنوب الظاهرة بالتوبة، ومن العيوب الباطنة بالخشية، ثم يغسل وجوده الباطل بماء الحقيقة، حتى يرجع لأصله، ويحظى بوصله، فإن وجود العبد بنفسه باطل، وهو حدثٌ يجب الطهارة منه، فيتحقق المدد من جنابه، فضلاً منه إليه، ويكون هو الدليل عليه، سطعت أنوار ودِّه فجميع الورى يسبحون في نوره.... . والله لولا الله ما اهتدينا = ولا تصدَّقنا ولا صلينا (3) 1والله لـولا الله مـا iiاهتدينـا ولا تصدَّقنا ولا صلينا (3) هو الموفق الهادي، وعليه توكلي واعتمادي، لولا ظهوره ما ظهرت الكائنات، ولولا نوره ما لاحت المخلوقات." اهـ182 اقتباس:======================= الحاشية ===================== (1) : سورة الأحزاب – الآية 37. (2) : سورة البقرة – الآية 115. (3) : وهذا البيت من جملة الأشعار التي أنشدها سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم متمثلاً بها لا منشئاً لها، فهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل الشعر حيث عصمه الله منه . وقد ثبت في الصحيح أنه صلى اللّه عليه وسلم تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه عنه، ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي اللّه عنهم، فإنهم كانوا يرتجزون وهم يحفرون فيقولون: لا هم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا إن أولاء قد بغوا علينا *** إذا أرادوا فتنة أبينا ويرفع صلى اللّه عليه وسلم صوته يقوله: أبينا، ويمدها، وقدر روى هذا بزحاف في الصحيحين أيضاً، وكذا ثبت أنه صلى اللّه عليه وسلم قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو: أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب لكن قالوا: هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن شعر، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه، وكذلك كا ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال: كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غار، فنكبت إصبعه، فقال صلى اللّه عليه وسلم: هل أنت إلا اصبع دميت *** وفي سبيل اللّه ما لقيت وكل هذا لا ينافي كونه صلى اللّه عليه وسلم ما علم شعراً وما ينبغي له، فإن اللّه تعالى إنما علمه القرآن العظيم {الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} ، وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال، وقد كانت سجيته صلى اللّه عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً. قال صلى اللّه عليه وسلم: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً" . أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً، قال ابن كثير. وإسناده على شرط الشيخين ولم يخرجاه. على أن الشعر فيه ما هو مشروع وهو هجاء المشركين، الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد اللّه بن رواحة وأمثالهم وأضرابهم رضي اللّه عنهم أجمعين، ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية، ومنهم (أمية ابن أبي الصلت) الذي قال فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "آمن شعره وكفر قلبه"، وقد أنشد بعض الصحابة رضي اللّه عنهم للنبي صلى اللّه عليه وسلم مائة بيت يقول صلى اللّه عليه وسلم عقب كل بيت: "هيه"، يعني يستطعمه فيزيده من ذلك، وفي الحديث: "إن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً" أخرجه أبو داود من حديث أبي بن كعب وابن عباس رضي اللّه عنهما. ولهذا قال تعالى: {وما علمناه الشعر} ." اهـ 182 (يتبع إن شاء الله تعالى مع الاستحضار براق الأخيار.... ) |
الاستحضار براق الأخيار
"استحضر قوله تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } (1) . وأنه سبحانه وتعالى محيطٌ بالعالم، أقرب إليك من نفسك، له عظمةٌ تدكُّ الجبال، وله لطفٌ وجمالٌ يدعو إلى الوصال، فاجعل قلبك كأنه ينطق: {الله }. أو أن الاسم الشريف منقوش على القلب ، واستغرق في الذكر ، فالقلب يذكر حضوراً، واللسان يذكر لفظاً، والأذن تسمع اسم حبيبها. فاستحضر أنك هنا غريب، ولا راحةَ لك إلا في وطنك الأول، وهو وصولك إلى مولاك، فيحصل للقلب جواذب وهيام، ويستديم الجهاد بين العبد وحظه، حتى يكاشفه الله بالحقيقة. استحضر سعة رحمة الله، وأقبل عليه بالكلية، حتى ينقلك إلى حضرة العبودية، فتكون عنده تعالى ، ويكفيك أنك متى ذكرت الله ذكرك (2)، وهذا هو الشرف العظيم، قال تعالى: { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } ( 3) . يعني: ذكر الله للعبد أكبر من الصلاة وهي ذكر العبد لله ." اهـ185 اقتباس:============================ الحاشية ==================== (1) : سورة الحديد - الآية 4. ويكون الاستحضار بمراقبة العبد نفسه أنه في معية الله تعالى دائماً، وأن الله سبحانه وتعالى يراقبه في كل أحواله، ولا يكون هذا إلا برياضة النفس وتربيتها على يد شيخ تربية عارف بمداخل النفس وأمراض القلوب، يأخذ بيد المريد إلى حضرة ربه بعد ان يخليه من كل خلق ذميم، ويحليه بكل خلق حميد كريم، فتثمر مراقبتنا لله عز وجل الرفق بخلق الله ونتأنى في تحصيل ما نطلبه منه سبحانه، ونحلم على من خالفنا وعصانا وآذانا، وهذا الخلق من أكمل أخلاق الرجال وقليل فاعله، ومن تخلق به ذوقا لم يصر عنده غلظة ولا فظاظة لا على من أمره بالإغلاظ عليهم كالكفار، وكذلك من تخلق به لم يتكدر ممن أبطأ في قضاء في الحاجة أبدا لأن الرسول لم يبطأ بها، وإنما أبطأ بها وقتها المضروب لها في علم الله، وكذلك من تخلق به لا يقابل أحدا آذاه بنظير فعله أبدا، ولو أن جاريته رمت ولده في نار فمات لم يقابلها ولا بكلمة تغيظها، بل ربما أعتقها تماما للحلم. ولا بد لمن يريد أن يتخلَّق بهذا الخلق من سلوك على يد شيخ ناصح يصبر معه على المجاهدة والرياضة حتى يدخله حضرات الأسماء الإلهية، فينصبغ في حضرة الرحيم، والحليم، والصبور، ويصير لا يتكلف لرفق ولا حلم ولا صبر كما لا يتكلف لدخول النفس وخروجه من خياشيمه، ومن لم يسلك فمن لازمه الإخلال بهذا الخلق ويدرك في نفسه مشقة وتعبا. فاسلك يا أخي على يد شيخ إن أردت التخلُّقَ بهذا ، والله يتولى هداك. (2) : ولهذا شواهد كثيرة من الحديث الشريف؛ منها: قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي الجليل: (أنا جليسُ من ذكرني). رواه الديلمي بلا سند عن عائشة مرفوعا، وعند البيهقي في الشعب عن أُبَي بن كعب قال: قال موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: يا رب أقريب أنت فأناجيك أو بعيد فأناديك؟ فقيل له:" يا موسى أنا جليس من ذكرني". وعند البيهقي أيضا في موضع آخر أن أبا أسامة قال لمحمد بن النضر: " أما تستوحش من طول الجلوس في البيت؟ فقال: ما لي أستوحش وهو يقول:" أنا جليس من ذكرني". وعن محمد بن نضر الحارثي، أنه قال لأبي الأحوص: أليس تروي أنه قال: " أنا جليس من ذكرني" فما أرجو بمجالسة الناس؟. وعند البيهقي معناه في المرفوع عن أبي هريرة أنه قال سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول إن الله عز وجل قال:" أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه"، ورواه الأوزاعي عن أبي هريرة موقوفا ومرفوعا، والمرفوع أصح، ورواه الحاكم وصححه عن أنس بلفظ قال الله تعالى :"عبدي أنا عند ظنك بي، وأنا معك إذا ذكرتني". (3) : سورة العنكبوت – آية 45. (يتبع إن شاء الله تعالى مع: " .... ) |
"قال بعض العارفين: إن أعظم ذنب هو نسيان الله المنعم المتفضل، كيف تنساه وهو فيَّاض الخير في كل حين؟.
قال تعالى: { وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها } (1) . فأكثر من ذكره ولو رموك بالجنون والبله (2)، فلك الشرف العظيم، فاللوم فيه لذيذ جميل، فلا يقع بصرك على مخلوق إلا وقد ذكرت الله الذي أبدعه وكوَّنه، فالعارف دخل جنة المعرفة (3) ، فاستغنى بها عن الجنة الآجلة، لأنه شاهد أنوار سيِّده. أهل الله لا يطلبون غيره، ولا يحنُّون إلى سواه، صيَّر الله قلوبهم بيوتاً معمورة بأنواره، وجعلهم كنوز معارفه وأسراره، وجعلهم كعبة للزوَّار، وذخراً للأطهار. قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( لي مع الله وقت لا يسعني فيه مَلَكٌ مُقَرَّب، ولا نبيٌّ مُرسَل) (4) . فلا يسع العبد إلا مولاه الواسع." اهـ اقتباس:=========================== الحاشية ====================== (1) : سورة النمل – الآية رقم 18. (2) : روى الإمام أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا: (أكثروا من ذكر الله حتى يقولوا مجنون). وروى الطبراني والبيهقي مرسلا: ( اذكروا الله ذكرا يقول المنافقون إنكم مراءُون). قال سيدي عبد الوهاب الشعراني في لواقح الأنوار القدسية في العهود والمواثيق المحمدية: وإنما سمى صلى الله عليه وسلم من ينسب الذاكرين إلى الرياء منافقا، لأنه لا ينسبهم إلى الرياء إلا وقد تحقق هو به، فعرفه صلى الله عليه وسلم حاله، وأنه لو لم يكن عنده رياء لحملهم على الإخلاص نظير ما عنده ومن هنا قالوا: لا يصح من الشيطان أن يسلم أبدا لأنه لو أسلم لم يتصور في باطنه كفر يوسوس به الناس، فكان بباطنه الكفر من العالم، لأنه لا واسطة لأحد في الكفر إلا إبليس فافهم. والله أعلم. (3) : فهناك جنتان: جنة الزخارف: وفيها تقضى الشهوات، وتنال الملذات والمسرات. وجنة المعارف:وهي غاية العارفين ومطلوبهم. فالشوق إلى النظر إلى وجه الكريم الذي هو أرفع درحات النعيم وغاية الأماني لكل قلب سليم ومن منح الشوق انقطعت عنه حاجات الدنيا والآخرة وأولاهم باللّه أشدهم له شوقاً. وقد كان المصطفى صلى اللّه عليه وسلم طويل الفكر دائم الأحزان فهل كان كذلك إلا من شدة شوقه إلى منزله وأقربهم قرباً وأعلمهم به أشدهم حرقة في القلوب، روي عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه كان يخرج إلى طور سيناء فربما ضاق عليه الأمر في الطريق فشق قميصه من شدة الشوق. قال حجة الإسلام: لو خلق فيك الشوق إلى لقائه والشهوة إلى معرفة جلاله لعلمت أنها أصدق وأقوى من شهوة الأكل والشرب وكذلك كل شيء بل وآثرت جنة المعرفة ورياضتها على الجنة التي فيها قضاء الشهوات المحسوسة وهذه الشهوة خلقت للعارفين ولم تخلق لك كما خلق لك شهوة الجاه ولم تخلق للصبيان وإنما لهم شهوة اللعب وأنت تعجب من عكوفهم عليه وخلوهم عن لذة العلم والرياسة والعارف يعجب منك ومن عكوفك على لذة العلم والرياسة فإن الدنيا بحذافيرها عنده لهو ولعب فلما خلق للكل معرفة الشوق كان التذاذهم بالمعرفة بقدر شهوتهم ويتفاوتون في ذلك ولذلك سأل المصطفى صلى اللّه عليه وسلم من المزيد ولا نسبة لتلك اللذة إلى لذة الشهوات الحسية شتان. ولذلك كان العارف ابن أدهم يقول: لو علم الملوك ما نحن فيه من النعيم لقاتلونا عليه بالسيوف. (4) : قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل). قال العلامة العجلوني في كشف الخفاء: أن هذه الحديث يذكره ساداتنا الصوفية كثيرا، وهو في رسالة القشيري بلفظ: (لي وقت لا يسعني فيه غير ربي). ويقرب منه ما رواه الترمذي في شمائله وابن راهويه في مسنده عن علي في حديث: " كان صلى الله عليه وسلم إذا أتى منـزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء جزءاً لله ، وجزءاً لأهله، وجزءً لنفسه ثم جزأ جزأه بينه وبين الناس". كذا في اللآلئ، وزاد فيها ورواه الخطيب بسند قال فيه الحافظ الدمياطي أنه على رسم الصحيح. وقال القاري بعد إيراده الحديث: قلت: ويؤخذ منه أنه أراد بالملك المقرب جبريل وبالنبي المرسل أخاه الخليل انتهى فليتأمل، ثم قال القاري وفيه إيماء إلى مقام الاستغراق باللقاء المعبر عنه بالسكر والمحو والفناء ، انتهى." اهـ189 (يتبع إن شاء الله تعالى مع "واعلم أيها السالك.... ) |
"واعلم أيها السالك أنك لا تضع قدمك في السير إلا وراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن ذاته معصومة محبوبة، فلو كشف لك الحجاب ورأيت أمراً خارجاً عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا تصدِّق ذلك الكشف، لأن هذا الكشف على قدرك، وأنت قاصر، ولكنَّ خبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موافق للحقيقة، وربما كان ذلك الكشف من المكر.
واحذر من الشاطحين الذين خرجوا عن الوسط، فليس في الوجود إلا إمام واحد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكل يخطيء ويصيب. وإذا أردت أن تفوز بالسر المكنون، والكنـز المصون، فأكثر من ذكر هذا الاسم مع استحضار معانيه، ووسعته، وتجلياته، عند ذلك يتنـزل لك الحق رحمة منه، وحناناً معلى قدرك، فتشهد سرَّ الحياة السارية فيك منه، وسرَّ السمع به وأنت من الطين، ويكاشفك بأطوارك الأزلية، والأبدية. فيشهدك يوم كنت روحاً لم تحجبك الغواشي، ويوم كنت في علمه ثابتاً لم تبرز، ويوم ان توجَّهت إليك القدرة فأبرزتك، ويوم أن أحاطت بك العناية، فجعلتك ممتداً من نور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، متَّصلاً به اتصال الفرع بالأصل، ويوم { أَلَستُ بربِّكم }، ويوم كنت في بطن أمك ، ويوم انتقالك من هذه الدار إلى البرزخ، ويوم قيامك للحشر، ويوم دخولك الجنة، إن شاء الله، وهذه هي أيام الله. ثم يرفعك من هذه المشاهد إلى شهودجنابه، فتكون بجواره بفضل الله، ولذلك قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيراً } (1) . فلم يحدده بعدد ولا زمان، ولا شرط، حتى أن الجنب لا ينسى ذكر مولاه فهو معه أين ما كان، ويكاشفك الحق سبحانه وتعالى بقدرته التي صيَّرت العدم وجوداً، وجعلت الطين ناطقاً مشهودا. واعلم أن السر الوحيد الذي يجعل الحق يعطف عليك، ويأمنك على أسراره أن تتأكَّد أن لله أسماء وصفات، ولا يشاركه فيها أحد، وأنت لك أسماء وصفات ضد هذه الأسماء والصفات. فاسمه تعالى: "العزيز" ووصفه العزة، واسمك: الذليل، وصفتك الذِّلَّة. واسمه: "القوي" وصفته:القوة، و اسمك: الضعيف، وصفتك:الضعف. واسمه: "الغني"، ووصفه : الغنى. واسمك: الفقير، ووصفك: الفقر. فلا يتجلى بالعلم إلا لمن تحقق بالجهل، ولا يتجلَّى بالكمال إلا لمن تحقَّق بالنقص، فاعرف المفتاح يتجلَّى لك "الفتَّاح". ." اهـ اقتباس:============================ الحاشية ===================== (1) : سورة الأحزاب – الآية 41. " اهـ 192 (يتبع إن شاء الله تعالى مع: ومن فهم دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقف على سرِّ التوحيد، .... ) |
"ومن فهم دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقف على سرِّ التوحيد، وتجمَّل من سيده بالمزيد، وهو:
"اللّهُمّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ. وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ. لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ. أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" (1) . "تبارك اسمك ، وتعالى جدُّك ولا إله غيرك". استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – بجمال الله من جلال الله، وبعفو الله من عقاب الله، فلم يستعذ من أثر من الآثار، أو من شر من الأشرار، ولكنه كشف الستار عن حقيقة الأمر، فالخلق مظاهر للأسماء الإلهية؛ فاسم:"المنتقم" قد يظهر معناه في فاجر يسلطه الله عليك، يغيثك على يديه، إذ الأمر منه وإليه. ثم قال:" وأعوذ بك منك" وهذا مشهد فوق الجلال والجمال، يعني: أعوذ من ذاتك بذاتك. ثم قال: " لا أحصي ثناء عليك" وهذا كلام سيد الخلق، والذي يحصي الثناء على الله هو الله، وما عرف الله إلا الله، قال بعض العارفين: "إن لله رجالاً سطعت عليهم أنوار الجلالة، فسبحوا في بحارها، وانجذبوا بتيَّارها، وأنسوا بجمالها، واستمدُّوا من كمالها. فإن قاموا؛ فبالله. وإن نطقوا؛ فمن الله. وإن سكتوا؛ فلله. وإن نظروا؛ فإلى أنوار الله المتجلية الدَّالَّة على علاه. وإن سمعوا ؛ فمن الله. لا يرون شيئاً إلا ويجذبهم إليه، حتى قاموا بالأرواح لديه، وكيف لا؟ وقد صرَّح القرآن حيث قال تعالى. { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه }(2) . فلا تقع عيون الأرواح إلاعلى وجهٍ منـزَّهٍ قريبٍ في علوِّه، قُدُّوسٍ في دنوِّه، لا تحيزه الأكوان، لأنه فوق الإمكان، ولكن متى شاء أن يتجلَّى لعبده أشرق في قلبه نور العناية، فلاحت له مواطن البداية، فتشهد الباقي بالباقي، وكان الحقُّ للمحبوب واقي. قال الإمام أبو العزائم - رضي الله عنه -: خمر (3) الجلالة للأرواح قد دارا = من اقها صار محبوباً ومختارا كم جنَّنت أنفساً ، كم حيَّرت ملكا = دارت بفضل إله العرش مدرارا 1 2خمر (3) الجلالة للأرواح قد دارا مـن اقهـا صـار محبوبـاً iiومختـارا كم جنَّنت أنفساً ، كـم حيَّـرت iiملكـا دارت بفضـل إلـه العـرش iiمـدرارا والجلالة: اسم الله ، فقد تكرر في القرآن الكريم كثيراً، ولم يجرؤ أي جبار أن يتسمَّى به لأن العزة تصونه لصاحبه تعالى. قال تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }(4) . أسأل الله أن يدخلنا في زمرة عباده الذين قال في حقهم: { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } (5) . قال بعض العارفين في قوله تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } (6) . يعني: اعبد حضرة الرب المتنـزِّل لك بالإنعام والإحسان حتى تتجلَّى لك حضرة الألوهية، فتعبد الله لأنك في عبادة الرب ، تلاحظ الكرم، والنعم، وإذا أتاك اليقين تترقَّى إلى شهود عظمة الألوهية، فتعبده لذاته لأنه أهلٌ للعبادة. اللهمَّ جمِّلنا بتلك الحقائق، واسقنا من الرائق، وكمِّل ارواحنا بالدقائق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم." اهـ اقتباس:=========================== الحاشية ==================== (1) : روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: "اللّهُمّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ. وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ. لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ. أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ". صحيح مسلم ورواه الأربعة [أبو داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجه]. (2) : سورة البقرة – الآية 115. (3) : الخمرة في اصطلاح ساداتنا الصوفية رضي الله عنهم يطلقونها على الذات العلية قبل التجلي، وعلى الأسرار القائمة بالأشياء بعد التجلي، فيقولون : الخمرة الأزلية تجلَّت بكذا، ومن نعتها كذا، وقامت بها الأشياء تستراً على سر الربوبية ، وعليها غنى سيدي سلطان العاشقين ابن الفارض رضي الله عنه وأرضاه في قصيدته المشهورة بالخمرية، وإنما سمَّوها :"خمرة" لأنها إذا تجلَّت للقلوب غابت عن حسها كما تغيب بالخمرة الحسية، وقد يطلقونها على نفس السكر، والوجد، والوجدان، يقولون: كنا في خمرة عظيمة، أي في غيبة عن الإحساس كبيرة، وعلى هذا غنى العارف بالله الششتري رضي الله عنه حيث قال: خمرها دون خمري *** خمرتي أزلية أي: سكر خمرة الدوالي دون خمرتي، وأما الكأس الذي تشرب منه هذه الخمرة فهو كناية عن سطوع أنوار التجلي على القلوب عند هيجان المحبة، فتدخل عليها حلاوة الوجد حتى تغيب ، وذلك عند سماعٍ، أو ذكر، أو مذاكرة، وقيل: الكأس هو قلب == الشيخ، فقلوب الشيوخ العارفين كؤوس لهذه الخمرة، يسقونها لمن صحبهم، وأحبَّهم، والشرب حضور القلب، واستعمال الفكرة والنظرة، حتى تغيب عن وجودك في وجوده، هو السكر ، فالشرب والسكر متصلان في زمن واحد في هذه الخمرة، بخلاف خمرة الدنيا، وقال القطب سيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه: المحبة أخذة من الله قلب من أحب بما يكشف له من نور جماله، وقدس كمال جلاله، وشراب المحبة مزج الأوصاف بالأوصاف، والأخلاق بالأخلاقن والأنوار بالأنوارن والأسماء بالأسماء، والنعوت بالنعوت، والأفعال بالأفعال، ويتسع النظر لمن شاء الله عز وجل ، والشراب يسقي القلوب والأوصال والعروق، من هذا الشراب ، ويكون الشرب بالتدريب بعد التدريب، والتهذيب بعد التهذيب، فيسقى كُلٌّ على قدره، فمنهم من يسقى بغير واسطة، والله تعالى يتولَّى ذلك منه، وهذا نادر. ومنهم من يسقى من جهة الوسائط كالملائكة والعلماء، والأكابر من المقربين. والكأس مغرفة الحق يغرف بها من ذلك الشراب الطهور المحض الصافي لمن شاء من عباده المخصوصين. (4) : سورة مريم - الآية 65. (5) : سورة الإنسان - الآية 6. (6) : سورة الحجر - الآية 99." اهـ 198 (يتبع إن شاء الله تعالى مع: الدُّعـــــاءُ..... ) |
الدُّعـــــاءُ
" اللهمَّ أدخلني إلى الحضرة القدسية، من الباب الذي لا تستره الحجب النورانية، والظلمانية، وأشهدني سرَّ تجلِّيك في الآفاق وفي نفسي، حتى أشرب راحاً من العين بالعين، قبل أن أدخل جنتي فأكون في ظلك سعيداً، ولنور وجهك شهيداً، وبمددك قائماً بالعبودية، وبما أتلقاه من مواهبك هائماً في شهود الذَّات العليَّة، يا قريب... يا مجيب... يا الله.... . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم"." اهـ199 (يتبع إن شاء الله تعالى مع: الرَّحمنُ جلَّ جَلاَلُه.... ) |
الساعة الآن 09:49 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |