منتديات البوحسن

منتديات البوحسن (http://www.albwhsn.net/vb//index.php)
-   المكتبة الاسلامية (http://www.albwhsn.net/vb//forumdisplay.php?f=24)
-   -   الأنوار القدسية في شرح اسماء الله الحسنى واسرارها الخفية (http://www.albwhsn.net/vb//showthread.php?t=838)

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:04 PM

"الرتبة الثانية من مراتب الولاية: أن يتنـزَّل إلى رتبة بطن ‏أمه، فيشاهد أنه كان ماء مهيناً في ظلام الأحشاء، وقد تولاَّه ‏‏"الولي" بأنوار الأسماء، فيتجلَّى له نور "البصير،"السميع".‏


فإذا تنـزَّلت إلى هذا المشهد، وخلعت الأنانية والحيثية، ‏ورجعت إلى أصلك واجهتك هذه الأسماء، وتجمَّلت بمعانيها، ‏وهذه رتبة من مراتب الأولياء، الذين تجمَّلوا بالعطاء، وسبحوا ‏في بحار الأسماء، وانجلى لهم أصلهم؛ وهو الماء، فرجعوا إليه ‏شهوداً وذكراً، فرفع الله لهم بين العوالم قدرا..... يقول ‏أحدهم: "الله" وهو مستحضر أنه "المصوِّر، الجميل، السميع، ‏البصير، المحيي ، النافع " فيرجع إلى أصله فيفوز بوصله.‏


المرتبة الثالثة: تتنـزَّل إلى رتبة التراب، فيشهدك الحق أنك ‏كنت متفرقاً في عناصر الوجود، فجمع الله حقيقتك من ‏تراب، ولحم، وفاكهة، وحوَّلها إلى منيّ هو أصلك، وعند ‏ذلك يتجلَّى لك أنوار اسمه تعالى:" الحكيم، الخبير، المحيط، ‏الحفيظ، اللطيف، القريب، الرحيم".‏


فمتى دخلت في هذا المشهد، وخلعت الأنانية، وذكرت ‏الله مستحضراً معاني الأسماء، فانياً عن كل ما أحاط بك، أو ‏نسب إليك من الآلاء، انفعلتْ لك الحقائق، وفُزتَ بالدقائق، ‏وتشهد أن الأسماء التي تولَّتك في تلك المواطن، هي التي ‏تتولاَّك هناك.‏


فإذا ذكرت الله وأنت تلاحظ تلك المعاني الخفية، تاركاً ‏المظاهر البشرية، شاهدت الأمر على ما هو عليه، فإن الأسماء ‏التي تولَّتك في تلك المواطن هي التي تواجهك الآن بالأسرار.‏


وجميع التطورات في نظر الله واحدة، والذي حجبك هو ‏الأنانية (1) ‏.‏


المرتبة الرابعة: أن تتنـزَّل من رتبة الأرض إلى رتبة العدم، ‏وتفهم معنى قوله تعالى"‏ {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ ‏شَيْئًا }‏(2) ‏ ‏. ‏


فترى العدم على أصله لم يتحوَّل، وترى نور القدم تجلَّى، ‏فأبرز العدم في صورة الوجود، وعند ذلك يصبح العبد مشرقاً ‏لشمس الحقيقة، إماماً لكل أهل الطريقة (3) ‏.‏" اهـ


اقتباس:============================= الحاشية =============================


(1) ‏: الأنانية : هي الحقيقة يضاف إليها كل شيء من العبد كقوله: روحي، ونفسي، ‏وقلبي، ويدي، ومالي.... .‏


(2) ‎ ‎‏: سورة مريم – الآية 9.‏


(3) ‎ ‎‏: الطريقة: هي السيرة المختصَّة بالسالكين إلى الله تعالى من قطع المنازل والترقِّي في ‏المقامات. وقيل: العمل هو حركة الجسم والقلب والفكر، فإن تحرَّك بما يوافق الشريعة ‏سمي طاعة. وإن تحرك بما يخالف الشريعة سمي معصية، لذلك أجمعوا على أن الشريعة: ‏لإصلاح الظواهر، والطريقة: لإصلاح الضمائر، والحقيقة: لإصلاح السرائر. ‏ " اهـ 165




(يتبع إن شاء الله تعالى مع: العلم كلُّه في العالَم كلِّه..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:05 PM

العلم كلُّه في العالَم كلِّه



"مهما أوتيت من علم فاعتقد أن فوقك من هو أعلم منك، وما ‏من كائن إلا وفيه معنى سرٍّ من أسماء الله ، لا تناله منه إلا ‏بالتواضع له والاحترام.‏


فلا تتكبَّر على أي رتبة من رتب الكون، فالظاهر فيها هو ‏‏"المعطي" تعالى، وقد قال الإمام أبو العزائم:" إن الرجل الذي ‏يتكمَّل بالعلم حتى تنطوي فيه معانيه، وحتى يأخذ دروس الحكمة ‏في النمل والنحل، والحيوانات، وجميع الكائنات، ولا ينظر إلى أنه ‏مكمِّل لغيره، مثل الشمعة تحترق لتضيء على غيرها، والبعض ‏يضيع الأنفاس بدون أن يحصِّل كمالاً لنفسه، لأنه متى رأى نفسه ‏كاملاً مكمِّلاً لغيره اغترَّ وتكبَّر.‏


إن معاني أسماء الله الحسنى ظهرت أسرارها في العبد ففيه ‏الحياة، والسمع، والبصر. وفيه سرُّ القدرة والإرادة. وفيه ‏الجمال الإلهي (1) ، والحسن الباهي، وجميع الأسماء تعينه في ‏حركته وسكونه، وفي يقظته ونومه.‏


فإذا عرف ما تجلَّى فيه له من الله، فقد عرف سيِّدَه ‏ومولاه، وانظر إلى هذا المثل ففيه غاية الأمل :‏


الكون كله مملكة يتصرَّف فيه الربُّ الكبير، وجسمك هذا ‏مملكة تصرَّفت فيها الروح بأمر مقدور له جنود في الأرض ‏والسموات، ولك جنود وهي الجوارح لقضاء الحاجات، ولله ‏عرشٌ عظيم، وقلبك يمثِّل العرش، وهو واسعٌ لأسرار العليم.‏


فلا تغفل عن شهود أنوار أسمائه فيك وفي الآفاق، واحذر ‏أن تنسبها لنفسك فتقع في الحجاب والنفاق." اهـ 168‏

اقتباس:====================== الحاشية =======================


(1) ‎ ‎‏: الجمال الإلهي: هو عبارة عن أوصافه العليا وأسمائه الحسنى، هذا على العموم، وأما على ‏الخصوص: فصفة الرحمة وصفة العلم، وصفة اللطف، والنعم، والجود، والرزَّاقية، ‏والخلاَّقيَّة، وصفة النفع، وأمثال ذلك كلها صفات جمال. وثَمَّ صفات مشتركة لها ‏وجه إلى الجمال ووجهٌ إلى الجلال، كاسمه تعالى:"الرب"، فإنه باعتبار التربية والإنشاء ‏‏: اسم جمال، وباعتبار الربوبية والقدرة: اسم جلال. ومثله اسم: "الله". واسمه " ‏الرحمن" بخلاف اسم " الرحيم"، فإنه اسم جمال وقس على ذلك.‏


‏ واعلم - رحمني الله وإياك - أن جمال الحق سبحانه وتعالى وإن كان متنوِّعاً فهو ‏نوعان: النوع الأول معنوي، وهو معاني أسماء الله الحسى، والأوصاف العلا، وهذا ‏النوع مختصٌّ بشهود الحقّ إيَّاه.

والنوع الثاني: صوري، هو هذا العالم المطلق المعبّر عنه ‏بالمخلوقات، وعلى تفاريعه وأنواعه، فهو حسن مطلق، إلهي، ظهر في مجال الهيئة، ‏سميت تلك المجالي بالخلق، وهذه التسمية أيضاً من جملة الحسن الإلهي، فالقبيح من ‏العالم كالمليح منه، باعتبار كونه مجلى من مجالي الجمال الإلهي، لا باعتبار تنوُّع ‏الجمال، فإن من الحسن أيضاً إبراز جنس القبيح على قبحه، لحفظ مرتبته في ‏الوجود، كما أن الحسن الإلهي إبراز جنس الحسن على وجه حسنه لحفظ مرتبته من ‏الوجود. وإن القبح في الأشياء إنما هو للاعتبار لا لنفس ذلك الشيء، فلا يوجد في ‏العالم قبحٌ إلا بالاعتبار، فارتفع حكم القبح المطلق من الوجود، فلم يبق إلا ‏الحسن المطلق، ألا ترى إلى قبح المعاصي إنما ظهر باعتبار النهي، وقبح الرائحة المنتنة ‏إنما ثبت باعتبار من لا يلائم طبعه." اهـ




(يتبع إن شاء الله تعالى مع: معرفة الذات الأحدية والأسماء.... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:05 PM

معرفة الذات الأحدية والأسماء ( 1 )




حضرة الذات في غيوب الغيوب = في بطون عن واصلٍ محبوب
فوق أسمائها وفوق صفات = فوق قدر الأرواح ، فوق القلوب
هي في الطَّمس والعماء تعالت = عن إشارات سابق ومنيبِ
آمن المرسلون بالغيب منها = سلم الأصفياء بالترحيبِ
ثمَّ للذات حضرةٌ تتجلَّى = بألوهيةٍ لفردٍ قريبِ
حضرةٌ حيَّرتْ عقول البرايا = جمعت ضدَّين باقتدارٍ عجيبِ
يظهر الحقُّ، يظهر الخلقُ فيها = طلعت شمسها بغير غروبِ
يتراءى عبدٌ ذليلٌ ضعيفٌ =يتجلَّى القوي للمطلوبِ
هي شمسٌ تمحو ظلام المباني = تتراءى أسماؤها للحبيبِ
ثُم لله حضرةٌ تتجلَّى =وهو رحمنٌ فوق عرش القلوبِ
تشمل الرحمةُ العوالم حقاً =لمطيعٍ تعمُّ أهل الذنوبِ
ثُمَّ لله حضرةٌ تتجلَّى =وهو ربُّ العباد ماحي الكروبِ
يظهر العبد بالخلافة عنه =ويطيع الورى لعبد نجيبِ
إن تجلَّى بحضرة العزِّ ذابت =من جلال المقام أهل القلوبِ
أو تجلَّى بحضرة اللطف هامت =أنفس المغرمين بالمحبوبِ
إن تجلَّى "الرحيمُ" أحيا البرايا =راحمُ الكلِّ ساتر العيوبِ
أو تجلَّى "القهَّار" ذلَّت خشوعاً =أنفس الأنبياء في ترهيبِ
أو تجلَّى "الكريم" طمأَنَ قلباً =نال أمناً وهام في ترغيبِ
أو تجلَّى "السَّتّار" جلَّ تعالى =ستر العبدَ من جميع الذنوبِ
حضرات الجمال (2)‏ تُحيي وتبقي =تتجلَّى لكلِّ صَبٍّ أديبِ
حضرات الجلال (3) ‏ تمحو وتُفني =تجعل الطفل عندها في المشيبِ
حضرات الكمال ميراثُ طه (4)‏ =بين خوفٍ وبين أمنٍ عجيبِ
فتوسَّط في السير فالدين يسرٌ =وتهنَّى بخالص المشروبِ
واعرف الله في جميع التجلَّي =وتحلَّ منه بخيرِ نصيبِ
إن عرفتَ "الودودَ" يعطيك فضلاً =فاعرف"العدل" في حساب "الحسيب
إن عرفت"الغفَّار" للذنب فاعرف =شدَّة"الحقِّ" عند كشف الغيوبِ
يتجلَّى بالعطف فينا ينادي: =رحمتي واسعه لأهل الخطوبِ
يتجلَّى بالكبرياء ينادي =يا عبادي ! لا تأمنوا تعذيبي
إنَّ مكري فوق العقول خفيٌّ =فلهذا يخشاه كل لبيبِ
فاطلب الذات فهي منها إليها =كلُّ أسمائها بغير غروبِ
إن أسماءها تجلَّت حناناً =لك يا عبدُ وهي غيب الغيوبِ
كن مع الذات، وحِّدِ الله وانهج =سُنَّةَ المصطفى بصدرٍ رحيبِ
عُرِضَ الملك والكنوزُ عليه (5) =طرحَ الكُلَّ مقبلاً للرقيبِ
هو عبدٌ للذَّات وهو مرادٌ =وهو كنـزٌ فالزم طريق الحبيبِ


اقتباس:============================= الحاشية =====================

(1) ‎ ‎‏: وهي قصيدة من نظم المؤلف رضي الله تعالى عنه وأرضاه.‏


(2) ‎ ‎‏: وذلك بمشاهدة القلوب بالأنوار والسرور، والألطاف، والكلام اللذيذ، والحديث ‏الأنيس، والبشارة بالمواهب الجسام، والمنازل العالية، والقرب منه عز وجل. ‏


(3) ‎ ‎‏: والجلال نعت إلهي يعطي في القلوب هيبة وتعظيماً وبه ظهر اسم الجليل، وحكم هذا ‏الاسم من أعجب الأحكام، فإن له حكم { ليس كمثله شيء }، {;سبحان ربك رب ‏العزة } ;‏.فمن حضرة الجلال ظهرت الألوهة وعجز الخلق عن المعرفة بها، ومن هذا ‏الاسم يعلم سر الخلق في الأرض لما فيهم من نسبة الباطن وجهرهم لما فيهم من نسبة ‏الظاهر، لارتفاعهم عن تأثير الأركان، فكل عظيم فهو جليل، وكل حقير فهو جليل، ‏فهو من الأضداد. قيل لأبي سعيد الخرَّاز - رضي الله عنه - : بم عرفت الله؟. فقال: ‏بجمعه بين الضدَّين قائلاً:‏‎ {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِن }. يعني من عين == ‏واحدة، وفي عين واحدة. ذكره سيدي محيي الدين بن عربي - رضي الله عنه - في ‏الفتوحات 4/251.‏


(4) ‎ ‎‏: سيدي وسيد الكائنات، حبيب الحق ومنقذ الخلق محمد بن عبد الله - صلى الله عليه ‏وآله وسلم - عدد خلقه وزنة عرشه ومداد كلماته كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ‏ذكره الغافلون.‏


(5) ‎ ‎‏: الضمير هنا عائد على حضرة النبي سيدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أن ‏عرضت عليه قريش أن يكون ملكاً عليها، مقابل أن يعود عن دعوته التي أرسله الله ‏بها!. فأبى عليهم وقال لعمه أبي طالب : والله يا عمِّ! لو وضعوا الشمس في يميني ، ‏والقمر في يساري على أن أدع هذا الدين ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه. " اهـ172



(يتبع إن شاء الله تعالى.... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:06 PM

الباب الرابع

شرح الأســــــماء الحسنى ‏ودعــــــاؤها

الله جلَّ جلاله



"إنَّ هذا الاسم علمٌ على الذات العليَّة، المنزَّهة عن الحدود، ‏وهو اسم الله الأعظم، الجامع لكل معاني الأسماء الحسنى، ولا ‏يسمَّى به إلا هو - عزَّ وجلّ-.‏


وإذا قلت: يا الله! تجيبك جميع الأسماء، كأنك قلت: يا ‏رحيم، يا كريم، يا معطي. إلى آخر الأسماء.


فقلبك يستحضر ‏معاني الأسماء ، ولسانك يقول:"الله" فيتجلَّى الحقُّ للذاكر ‏العارف في جلالة وعَظَمة خضعت لها الأعناق بالركوع ‏والسجود. قال تعالى:‏‎ { وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ ‏وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ }‏(1) ‏ ‏.


ويتجلَّى للذَّاكر بجمالٍ لاح على صفحات الوجود، ‏ويجذب الألباب، ويبهر الأرواح بالشهود، وتتجلى لك ‏الحضرات والإمدادات والجمالات، والجلالات، والآيات ، ‏والبينات، وما فيها تحت سلطان الألوهية.... .‏


فالعارف بالله يرى نفسه أحقر من الذَّر، لظهور العظمة، ‏وتجلِّي الحضرة العلية، ويرى نفسه أسعد الخلق وأغناهم، لأنه ‏صار عبداً للغني العلي الكبير، فهو العبد الذَّليل لله، العزيز ‏بالله، الفقير لله، الغني بالله، لا ينظر إلى معاني الأسماء من ‏حيث الألفاظ اللغوية، ولكن يتوجَّه إليها من معانهيا النورانية، ‏وآثارها البهية.‏


وليس للعبد من هذا الاسم حظٌّ إلا التعلُّق به ذكراً ‏وحضوراً واستحضاراً، حتى يتلاشى تحت سواطع الأنوار، ‏فيحصل له الوَلَه، والذُّهول عن الآثار، وعند ذلك يشهد مولى ‏ليس كمثله شيء، وهو أقرب إلينا من كل شيء (2) ‏" اهـ


اقتباس:========================== الحاشية =====================.

(1) ‎ ‎‏: سورة الرعد – الآية 15.‏

(2) ‎ ‎‏: قال الشيخ زروق رضي الله عنه: كل الأسماء يصح لمعانيها التخلق إلا هذا الاسم فإنه ‏للتعلق ، وكل الأسماء راجعة إليه ، فالمعرفة به معرفة بها ، وهو دال بصيغته على عظمة ‏المسمى به ، ذاتاً ، وصفاتٍ ، وأسماءً ، وما يرجع لذلك من أفعاله . والمعرفة به تفيد ‏الفناء فيه للعارفين ، والتعظيم والإجلال ، والهيبة والأنس للمريدين ، والتقرب به على ‏وفق ذلك من إسقاط الهوى ، ومحبة المولى ، ولا يصح ذلك إلا بقلب مفرد فيه توحيد ‏مجرد ، وذلك يستدعي جميع الأحوال والمقامات والكرامات ، فلذلك لما سئل الجنيد ‏رضي الله عنه: كيف السبيل إلى الانقطاع إلى الله تعالى ؟. قال: بتوبة تزيل الإصرار ، ‏وخوف يزيل التسويف ، ورجاء يبعث على مسالك الأعمال ، وإهانة النفس بقربها ‏من الأجل وبعدها من الأمل . قيل له : بماذا يصل العبد إلى هذا ؟ قال: بقلب مفرد ‏فيه توحيد مجرّد، انتهى.

‏ قال سيدي ابن عجيبة في شرحه لهذا الاسم: " قلت: وقول الشيخ زروق رضي الله ‏عنه : لا يصلح هذا الاسم إلا للتعلق دون التخلق، إنما هو مذهب أهل الظاهر، وأما ‏مذهب أهل التحقيق من أهل الباطن فهو يصلح للتعلق ، والتخلق . والتخلق به: هو ‏الفناء فيه ، والاستهلاك في الحقيقة بحيث يفنى من لم يكن ، ويبقى من لم يزل .

‏ وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : إن لله عباداً محق أفعالهم بأفعاله ، ‏وأوصافهم بأوصافه ، وذاتهم بذاته، وحملهم من أسراره ما تعجز الأولياء عن حمله ، ‏انتهى.‏

‏ وقال القطب شيخ شيوخنا ، ومادة طريقتنا مولانا عبد السلام بن مشيش رضي الله ‏عنه ، ونفعنا ببركاته - لما تكلم على المحبة - قال :والمحبة مزج الأوصاف بالأوصاف، ‏والأخلاق بالأخلاق ، والأنوار بالأنوار ، والأسماء بالأسماء، والنعوت بالنعوت ، ‏والأفعال بالأفعال، انتهى .

فتحصل: أن التخلق باسم الجلالة هو : الفناء فيه ، ‏والغيبة عما سواه .‏

‏ قال الغزالي رضي الله عنه :
ينبغي أن يكون حظ العبد من هذا الاسم التألّه، وأعني: ‏أن يكون مستغرق القلب والهمة بالله تعالى ، لا يرى غيره ، ولا يلتفت إلى سواه ، ‏ولا يرجو، ولايخاف إلا إياه ، وكيف لا يكون كذلك وقد فهم من هذا الاسم أنه ‏الموجود الحقيقي الحق ، وكل ما سواه هالك وفان ، وباطل إلا به ، فيرى أولاً نفسه ‏هالكاً ، وباطلاً . كما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: أصدق بيت ‏قالته العرب بيت لبيد:-‏
ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** وكل نعيم لا محالة زائل

‏ وقال بعض من شرح الأسماء : وأما التخلق بهذا الاسم : فاتصاف بكل وصف ‏كمال، بقدر ما يمكن في طور العبد ، وبحسب استعداد الخاصة مثل الأنبياء ، ‏والمجذوبين ، والمحبوبين من الأولياء ، وقد يكون بالمجاهدات البالغة ، والرياضة الشاقة ، ‏وتهذيب الأخلاق ، وتبديل الأوصاف ، وقد يكون بنتائج التجليات، وثمرات ‏المشاهدات ،

ثم قال: وأما التحقق بحقائق هذا الاسم فهو : أن تطلع شمسه من ‏مشرق قلبه ، وتنوّرٌ من العبد سارياً في كليته وسرائره ،شاملاً لظواهره وضمائره ، ‏فيفنى اسمه ورسمه ، ويلطف قلبه وروحه، بل جسمه ، فيبدل الحدوث بالقدم ، ‏والظلمات بالأنوار ، ويعوضه من ليل الحجاب نهار الإبهار ، فيفنى ثم يبقى ، بوجود ‏موجود حقاني ، ويخفى ثم يبقى بوصف كريم رباني، ويكون الحق سمعه ، وبصره ، ‏ويده ، به يسمع ، وبه يبصر، وبه يبطش ، بل يكون بكليته ما لا يصفه الواصفون ، ‏ولا يحيط به العارفون ، انتهى .‏" اهـ177




(يتبع إن شاء الله تعالى .... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:07 PM

"وحضرة الألوهية حضرة الغنى المطلق، والعز المحقَّق.


يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه سيد الخلائق - صلى الله ‏عليه وآله وصحبه وسلم:‏‎ { وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن ‏تَخْشَاهُ}‏ ‏(1) ‏.‏


فحضرة الألوهية ترتعد من عزتها فرائص المقرَّبين. ‏والعارف بالله لا يأمن مكر الله، ولو صرَّفه الله في العوالم، ولا ‏ييأس من روح الله، ولو انغمس في الذنوب العظائم، لا يرى ‏في الوجود مخلوقاً أنقص من نفسه، ولا يتعالى على مخلوق ، ‏وتأخذه الغيرة بالله على انتهاك الحرمات، وهو فانٍ عن نفسه، ‏وحظِّه، وجميع الشهوات، عرف أن كل شيء ما خلا الله ‏باطل، فلم يرتكن على مخلوق لأنه رأى إشراقة الجمال فتنعَّم ‏بشهودها، وشرب الطهور من قول الله تعالى:‏{‏ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ ‏فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } (2)‏ ‏ ‏.‏


انطوت العبارة، وانكشفت حقائق الآثار، فشاهد العدم ‏بارزاً بنور القدم، فقال: " سبحانك يا قدير! يا من أقمت ‏العبد في صورة "السميع، البصير".‏


ومن أراد أن يتنعَّم بشهود الحضرة فعليه أولاً أن يتطهَّر من ‏الذنوب الظاهرة بالتوبة، ومن العيوب الباطنة بالخشية، ثم ‏يغسل وجوده الباطل بماء الحقيقة، حتى يرجع لأصله، ويحظى ‏بوصله، فإن وجود العبد بنفسه باطل، وهو حدثٌ يجب ‏الطهارة منه، فيتحقق المدد من جنابه، فضلاً منه إليه، ويكون ‏هو الدليل عليه، سطعت أنوار ودِّه فجميع الورى يسبحون ‏في نوره.... .




والله لولا الله ما اهتدينا = ولا تصدَّقنا ولا صلينا (3)

1والله لـولا الله مـا iiاهتدينـا ولا تصدَّقنا ولا صلينا (3)



هو الموفق الهادي، وعليه توكلي واعتمادي، لولا ظهوره ‏ما ظهرت الكائنات، ولولا نوره ما لاحت المخلوقات." اهـ182


اقتباس:======================= الحاشية =====================‏

(1) ‎ ‎‏: سورة الأحزاب – الآية 37.‏

(2) ‎ ‎‏: سورة البقرة – الآية 115.‏

(3) ‎ ‎‏: وهذا البيت من جملة الأشعار التي أنشدها سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم متمثلاً ‏بها لا منشئاً لها، فهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل الشعر حيث عصمه الله منه . ‏وقد ثبت في الصحيح أنه صلى اللّه عليه وسلم تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد اللّه ‏بن رواحة رضي اللّه عنه، ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي اللّه عنهم، فإنهم كانوا ‏يرتجزون وهم يحفرون فيقولون:‏

لا هم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا
إن أولاء قد بغوا علينا *** إذا أرادوا فتنة أبينا

‏ ويرفع صلى اللّه عليه وسلم صوته يقوله: أبينا، ويمدها، وقدر روى هذا بزحاف في ‏الصحيحين أيضاً، وكذا ثبت أنه صلى اللّه عليه وسلم قال يوم حنين وهو راكب ‏البغلة يقدم بها في نحور العدو:‏

أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب

لكن قالوا: هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن شعر، بل جرى على اللسان من غير ‏قصد إليه، وكذلك كا ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبد اللّه رضي اللّه عنه ‏قال: كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غار، فنكبت إصبعه، فقال صلى اللّه ‏عليه وسلم:‏

هل أنت إلا اصبع دميت *** وفي سبيل اللّه ما لقيت

‏ وكل هذا لا ينافي كونه صلى اللّه عليه وسلم ما علم شعراً وما ينبغي له، فإن اللّه تعالى ‏إنما علمه القرآن العظيم ‏{الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من ‏حكيم حميد} ، وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة ‏ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال، وقد كانت سجيته ‏صلى اللّه عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً. قال صلى اللّه عليه وسلم: "لأن ‏يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً" . أخرجه الإمام أحمد عن أبي ‏هريرة مرفوعاً، قال ابن كثير. وإسناده على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

‏ على أن الشعر فيه ما هو مشروع وهو هجاء المشركين، الذي كان يتعاطاه شعراء ‏الإسلام، كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد اللّه بن رواحة وأمثالهم وأضرابهم ‏رضي اللّه عنهم أجمعين، ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب، كما يوجد في شعر ‏جماعة من الجاهلية، ومنهم (أمية ابن أبي الصلت) الذي قال فيه رسول اللّه صلى اللّه ‏عليه وسلم: "آمن شعره وكفر قلبه"، وقد أنشد بعض الصحابة رضي اللّه عنهم للنبي ‏‏صلى اللّه عليه وسلم مائة بيت يقول صلى اللّه عليه وسلم عقب كل بيت: ‏‏"هيه"، يعني يستطعمه فيزيده من ذلك، وفي الحديث: "إن من البيان سحراً وإن من ‏الشعر حكماً" أخرجه أبو داود من حديث أبي بن كعب وابن عباس رضي اللّه ‏عنهما. ولهذا قال تعالى: ‏{وما علمناه الشعر}‏ .‏" اهـ 182





(يتبع إن شاء الله تعالى مع الاستحضار براق الأخيار‏.... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:08 PM

الاستحضار براق الأخيار‏



"استحضر قوله تعالى:‏‎ { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } (1)‏ ‏ ‏.


وأنه سبحانه وتعالى محيطٌ بالعالم، أقرب إليك من نفسك، له ‏عظمةٌ تدكُّ الجبال، وله لطفٌ وجمالٌ يدعو إلى الوصال، فاجعل ‏قلبك كأنه ينطق:‏‎ {الله ‏}‏. أو أن الاسم الشريف منقوش على ‏القلب ، واستغرق في الذكر ، فالقلب يذكر حضوراً، واللسان ‏يذكر لفظاً، والأذن تسمع اسم حبيبها.‏


فاستحضر أنك هنا غريب، ولا راحةَ لك إلا في وطنك ‏الأول، وهو وصولك إلى مولاك، فيحصل للقلب جواذب ‏وهيام، ويستديم الجهاد بين العبد وحظه، حتى يكاشفه الله ‏بالحقيقة.‏


استحضر سعة رحمة الله، وأقبل عليه بالكلية، حتى ينقلك ‏إلى حضرة العبودية، فتكون عنده تعالى ، ويكفيك أنك متى ‏ذكرت الله ذكرك (2)، وهذا هو الشرف العظيم، ‏قال تعالى: ‏{ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } ( 3)

‏ ‏ ‏. ‏
يعني: ذكر الله للعبد أكبر من الصلاة وهي ذكر العبد لله .‏" اهـ185


اقتباس:============================ الحاشية ====================

(1) ‎ ‎‏: سورة الحديد - الآية 4. ‏

‏ ويكون الاستحضار بمراقبة العبد نفسه أنه في معية الله تعالى دائماً، وأن الله سبحانه ‏وتعالى يراقبه في كل أحواله، ولا يكون هذا إلا برياضة النفس وتربيتها على يد شيخ ‏تربية عارف بمداخل النفس وأمراض القلوب، يأخذ بيد المريد إلى حضرة ربه بعد ان ‏يخليه من كل خلق ذميم، ويحليه بكل خلق حميد كريم، فتثمر مراقبتنا لله عز وجل ‏الرفق بخلق الله ونتأنى في تحصيل ما نطلبه منه سبحانه، ونحلم على من خالفنا وعصانا ‏وآذانا، وهذا الخلق من أكمل أخلاق الرجال وقليل فاعله، ومن تخلق به ذوقا لم يصر ‏عنده غلظة ولا فظاظة لا على من أمره بالإغلاظ عليهم كالكفار، وكذلك من تخلق ‏به لم يتكدر ممن أبطأ في قضاء في الحاجة أبدا لأن الرسول لم يبطأ بها، وإنما أبطأ ‏بها وقتها المضروب لها في علم الله، وكذلك من تخلق به لا يقابل أحدا آذاه بنظير فعله ‏أبدا، ولو أن جاريته رمت ولده في نار فمات لم يقابلها ولا بكلمة تغيظها، بل ربما ‏أعتقها تماما للحلم. ولا بد لمن يريد أن يتخلَّق بهذا الخلق من سلوك على يد شيخ ‏ناصح يصبر معه على المجاهدة والرياضة حتى يدخله حضرات الأسماء الإلهية، فينصبغ ‏في حضرة الرحيم، والحليم، والصبور، ويصير لا يتكلف لرفق ولا حلم ولا صبر كما ‏لا يتكلف لدخول النفس وخروجه من خياشيمه، ومن لم يسلك فمن لازمه الإخلال ‏بهذا الخلق ويدرك في نفسه مشقة وتعبا. فاسلك يا أخي على يد شيخ إن أردت ‏التخلُّقَ بهذا ، والله يتولى هداك.


(2) ‎ ‎‏: ولهذا شواهد كثيرة من الحديث الشريف؛ منها: قوله سبحانه وتعالى في الحديث ‏القدسي الجليل: (أنا جليسُ من ذكرني). رواه الديلمي بلا سند عن عائشة مرفوعا، ‏وعند البيهقي في الشعب عن أُبَي بن كعب قال: قال موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: يا رب أقريب أنت فأناجيك أو بعيد فأناديك؟ فقيل له:" يا موسى أنا ‏جليس من ذكرني". ‏


‏وعند البيهقي أيضا في موضع آخر أن أبا أسامة قال لمحمد بن النضر: " أما ‏تستوحش من طول الجلوس في البيت؟ فقال: ما لي أستوحش وهو يقول:" أنا جليس ‏من ذكرني". وعن محمد بن نضر الحارثي، أنه قال لأبي الأحوص: أليس تروي أنه ‏قال: " أنا جليس من ذكرني" فما أرجو بمجالسة الناس؟. وعند البيهقي معناه في ‏المرفوع عن أبي هريرة أنه قال سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول إن الله عز ‏وجل قال:" أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه"، ورواه الأوزاعي عن أبي ‏هريرة موقوفا ومرفوعا، والمرفوع أصح، ورواه الحاكم وصححه عن أنس بلفظ قال ‏الله تعالى :"عبدي أنا عند ظنك بي، وأنا معك إذا ذكرتني".‏


(3) ‎ ‎‏: سورة العنكبوت – آية 45.‏



(يتبع إن شاء الله تعالى مع: " .... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:08 PM

"قال بعض العارفين: إن أعظم ذنب هو نسيان الله المنعم ‏المتفضل، كيف تنساه وهو فيَّاض الخير في كل حين؟.‏


قال تعالى:‏‎ { وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها }‏ ‏(1) ‏.‏


فأكثر من ذكره ولو رموك بالجنون والبله (2)، فلك الشرف ‏العظيم، فاللوم فيه لذيذ جميل، فلا يقع بصرك على مخلوق إلا ‏وقد ذكرت الله الذي أبدعه وكوَّنه، فالعارف دخل جنة ‏المعرفة (3) ، فاستغنى بها عن الجنة الآجلة، لأنه شاهد أنوار ‏سيِّده.‏


أهل الله لا يطلبون غيره، ولا يحنُّون إلى سواه، صيَّر الله ‏قلوبهم بيوتاً معمورة بأنواره، وجعلهم كنوز معارفه وأسراره، ‏وجعلهم كعبة للزوَّار، وذخراً للأطهار.‏


قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( لي مع الله وقت لا يسعني ‏فيه مَلَكٌ مُقَرَّب، ولا نبيٌّ مُرسَل)‏ (4) ‏. ‏


فلا يسع العبد إلا مولاه الواسع.‏" اهـ

اقتباس:=========================== الحاشية ======================

(1) ‎ ‎‏: سورة النمل – الآية رقم 18.‏

(2) ‎ ‎‏: روى الإمام أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد ‏مرفوعا: (أكثروا من ذكر الله حتى يقولوا مجنون). وروى الطبراني والبيهقي مرسلا: ( ‏اذكروا الله ذكرا يقول المنافقون إنكم مراءُون). قال سيدي عبد الوهاب الشعراني في ‏لواقح الأنوار القدسية في العهود والمواثيق المحمدية: وإنما سمى صلى الله عليه وسلم من ‏ينسب الذاكرين إلى الرياء منافقا، لأنه لا ينسبهم إلى الرياء إلا وقد تحقق هو به، ‏فعرفه صلى الله عليه وسلم حاله، وأنه لو لم يكن عنده رياء لحملهم على الإخلاص ‏نظير ما عنده ومن هنا قالوا: لا يصح من الشيطان أن يسلم أبدا لأنه لو أسلم لم ‏يتصور في باطنه كفر يوسوس به الناس، فكان بباطنه الكفر من العالم، لأنه لا واسطة ‏لأحد في الكفر إلا إبليس فافهم. والله أعلم.‏

(3) ‎ ‎‏: فهناك جنتان: جنة الزخارف: وفيها تقضى الشهوات، وتنال الملذات والمسرات. ‏وجنة المعارف:وهي غاية العارفين ومطلوبهم. فالشوق إلى النظر إلى وجه الكريم الذي ‏هو أرفع درحات النعيم وغاية الأماني لكل قلب سليم ومن منح الشوق انقطعت ‏عنه حاجات الدنيا والآخرة وأولاهم باللّه أشدهم له شوقاً. وقد كان المصطفى صلى ‏اللّه عليه وسلم طويل الفكر دائم الأحزان فهل كان كذلك إلا من شدة شوقه إلى ‏منزله وأقربهم قرباً وأعلمهم به أشدهم حرقة في القلوب، روي عن موسى عليه الصلاة ‏والسلام أنه كان يخرج إلى طور سيناء فربما ضاق عليه الأمر في الطريق فشق قميصه ‏من شدة الشوق. ‏

‏ قال حجة الإسلام: لو خلق فيك الشوق إلى لقائه والشهوة إلى معرفة جلاله لعلمت ‏أنها أصدق وأقوى من شهوة الأكل والشرب وكذلك كل شيء بل وآثرت جنة ‏المعرفة ورياضتها على الجنة التي فيها قضاء الشهوات المحسوسة وهذه الشهوة خلقت ‏للعارفين ولم تخلق لك كما خلق لك شهوة الجاه ولم تخلق للصبيان وإنما لهم شهوة ‏اللعب وأنت تعجب من عكوفهم عليه وخلوهم عن لذة العلم والرياسة والعارف ‏يعجب منك ومن عكوفك على لذة العلم والرياسة فإن الدنيا بحذافيرها عنده لهو ‏ولعب فلما خلق للكل معرفة الشوق كان التذاذهم بالمعرفة بقدر شهوتهم ‏ويتفاوتون في ذلك ولذلك سأل المصطفى صلى اللّه عليه وسلم من المزيد ولا نسبة ‏لتلك اللذة إلى لذة الشهوات الحسية شتان. ولذلك كان العارف ابن أدهم يقول: لو ‏علم الملوك ما نحن فيه من النعيم لقاتلونا عليه بالسيوف. ‏

(4) ‎ ‎‏: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي ‏مرسل). قال العلامة العجلوني في كشف الخفاء: أن هذه الحديث يذكره ساداتنا ‏الصوفية كثيرا، وهو في رسالة القشيري بلفظ: (لي وقت لا يسعني فيه غير ربي). ‏ويقرب منه ما رواه الترمذي في شمائله وابن راهويه في مسنده عن علي في حديث: " ‏كان صلى الله عليه وسلم إذا أتى منـزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء جزءاً لله ، وجزءاً ‏لأهله، وجزءً لنفسه ثم جزأ جزأه بينه وبين الناس". كذا في اللآلئ، وزاد فيها ورواه ‏الخطيب بسند قال فيه الحافظ الدمياطي أنه على رسم الصحيح. وقال القاري بعد ‏إيراده الحديث: قلت: ويؤخذ منه أنه أراد بالملك المقرب جبريل وبالنبي المرسل أخاه ‏الخليل انتهى فليتأمل، ثم قال القاري وفيه إيماء إلى مقام الاستغراق باللقاء المعبر عنه ‏بالسكر والمحو والفناء ، انتهى.‏" اهـ189


(يتبع إن شاء الله تعالى مع "واعلم أيها السالك‏.... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:09 PM

"واعلم أيها السالك أنك لا تضع قدمك في السير إلا وراء ‏رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن ذاته معصومة ‏محبوبة، فلو كشف لك الحجاب ورأيت أمراً خارجاً عن سنة ‏رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا تصدِّق ذلك ‏الكشف، لأن هذا الكشف على قدرك، وأنت قاصر، ولكنَّ ‏خبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موافق للحقيقة، ‏وربما كان ذلك الكشف من المكر.‏


واحذر من الشاطحين الذين خرجوا عن الوسط، فليس في ‏الوجود إلا إمام واحد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏والكل يخطيء ويصيب.‏


وإذا أردت أن تفوز بالسر المكنون، والكنـز المصون، ‏فأكثر من ذكر هذا الاسم مع استحضار معانيه، ووسعته، ‏وتجلياته، عند ذلك يتنـزل لك الحق رحمة منه، وحناناً معلى ‏قدرك، فتشهد سرَّ الحياة السارية فيك منه، وسرَّ السمع به ‏وأنت من الطين، ويكاشفك بأطوارك الأزلية، والأبدية.‏


فيشهدك يوم كنت روحاً لم تحجبك الغواشي، ويوم كنت ‏في علمه ثابتاً لم تبرز، ويوم ان توجَّهت إليك القدرة ‏فأبرزتك، ويوم أن أحاطت بك العناية، فجعلتك ممتداً من ‏نور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، متَّصلاً به اتصال ‏الفرع بالأصل، ويوم { أَلَستُ بربِّكم }، ويوم كنت في بطن ‏أمك ، ويوم انتقالك من هذه الدار إلى البرزخ، ويوم قيامك ‏للحشر، ويوم دخولك الجنة، إن شاء الله، وهذه هي أيام الله.‏


ثم يرفعك من هذه المشاهد إلى شهودجنابه، فتكون بجواره ‏بفضل الله، ولذلك قال تعالى:‏‎ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا ‏اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيراً }‏ ‏(1)

‏.‏
فلم يحدده بعدد ولا زمان، ولا شرط، حتى أن الجنب لا ‏ينسى ذكر مولاه فهو معه أين ما كان، ويكاشفك الحق ‏سبحانه وتعالى بقدرته التي صيَّرت العدم وجوداً، وجعلت ‏الطين ناطقاً مشهودا.


واعلم أن السر الوحيد الذي يجعل الحق يعطف عليك، ‏ويأمنك على أسراره أن تتأكَّد أن لله أسماء وصفات، ولا ‏يشاركه فيها أحد، وأنت لك أسماء وصفات ضد هذه الأسماء ‏والصفات.‏


فاسمه تعالى: "العزيز" ووصفه العزة، واسمك: الذليل، ‏وصفتك الذِّلَّة.‏


واسمه: "القوي" وصفته:القوة، و اسمك: الضعيف، ‏وصفتك:الضعف.‏


واسمه: "الغني"، ووصفه : الغنى. واسمك: الفقير، ‏ووصفك: الفقر.‏


فلا يتجلى بالعلم إلا لمن تحقق بالجهل، ولا يتجلَّى بالكمال ‏إلا لمن تحقَّق بالنقص، فاعرف المفتاح يتجلَّى لك "الفتَّاح".‏ ." اهـ


اقتباس:============================ الحاشية =====================

(1) ‎ ‎‏: سورة الأحزاب – الآية 41.‏ " اهـ 192




‏(يتبع إن شاء الله تعالى مع: ومن فهم دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ‏وقف على سرِّ التوحيد،‏ .... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:09 PM

"ومن فهم دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ‏وقف على سرِّ التوحيد، وتجمَّل من سيده بالمزيد، وهو:‏


‏"اللّهُمّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ. وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ ‏عُقُوبَتِكَ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ. لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ. أَنْتَ كَمَا ‏أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"‏ (1) ‏.‏ ‏"تبارك اسمك ، وتعالى جدُّك ولا إله غيرك".‏


استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – بجمال ‏الله من جلال الله، وبعفو الله من عقاب الله، فلم يستعذ من ‏أثر من الآثار، أو من شر من الأشرار، ولكنه كشف الستار ‏عن حقيقة الأمر، فالخلق مظاهر للأسماء الإلهية؛ ‏فاسم:"المنتقم" قد يظهر معناه في فاجر يسلطه الله عليك، ‏يغيثك على يديه، إذ الأمر منه وإليه.‏


ثم قال:" وأعوذ بك منك" وهذا مشهد فوق الجلال ‏والجمال، يعني: أعوذ من ذاتك بذاتك.‏


ثم قال: " لا أحصي ثناء عليك" وهذا كلام سيد الخلق، ‏والذي يحصي الثناء على الله هو الله، وما عرف الله إلا الله، ‏قال بعض العارفين:


‏"إن لله رجالاً سطعت عليهم أنوار الجلالة، فسبحوا في ‏بحارها، وانجذبوا بتيَّارها، وأنسوا بجمالها، واستمدُّوا من ‏كمالها. فإن قاموا؛ فبالله. وإن نطقوا؛ فمن الله. وإن سكتوا؛ ‏فلله. وإن نظروا؛ فإلى أنوار الله المتجلية الدَّالَّة على علاه. وإن ‏سمعوا ؛ فمن الله. لا يرون شيئاً إلا ويجذبهم إليه، حتى قاموا ‏بالأرواح لديه، وكيف لا؟ وقد صرَّح القرآن حيث قال ‏تعالى.‏‎ { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه }‏(2) ‏ ‏.


فلا تقع عيون الأرواح إلاعلى وجهٍ منـزَّهٍ قريبٍ في ‏علوِّه، قُدُّوسٍ في دنوِّه، لا تحيزه الأكوان، لأنه فوق الإمكان، ‏ولكن متى شاء أن يتجلَّى لعبده أشرق في قلبه نور العناية، ‏فلاحت له مواطن البداية، فتشهد الباقي بالباقي، وكان الحقُّ ‏للمحبوب واقي.‏


قال الإمام أبو العزائم - رضي الله عنه -:‏




خمر (3) ‏ الجلالة للأرواح قد دارا = من اقها صار محبوباً ومختارا
كم جنَّنت أنفساً ، كم حيَّرت ملكا = دارت بفضل إله العرش مدرارا

1
2خمر (3) ‏ الجلالة للأرواح قد دارا مـن اقهـا صـار محبوبـاً iiومختـارا
كم جنَّنت أنفساً ، كـم حيَّـرت iiملكـا دارت بفضـل إلـه العـرش iiمـدرارا



والجلالة: اسم الله ، فقد تكرر في القرآن الكريم كثيراً، ولم ‏يجرؤ أي جبار أن يتسمَّى به لأن العزة تصونه لصاحبه تعالى.‏ ‏ قال تعالى: ‏{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }‏(4) ‏ ‏.‏


أسأل الله أن يدخلنا في زمرة عباده الذين قال في حقهم:‏‎ ‎{ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا }‏ (5)‏ ‏.‏


قال بعض العارفين في قوله تعالى:‏‎ { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى ‏يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }‏ (6)‏ ‏.


يعني: اعبد حضرة الرب المتنـزِّل لك بالإنعام والإحسان ‏حتى تتجلَّى لك حضرة الألوهية، فتعبد الله لأنك في عبادة ‏الرب ، تلاحظ الكرم، والنعم، وإذا أتاك اليقين تترقَّى إلى ‏شهود عظمة الألوهية، فتعبده لذاته لأنه أهلٌ للعبادة.‏


اللهمَّ جمِّلنا بتلك الحقائق، واسقنا من الرائق، وكمِّل ‏ارواحنا بالدقائق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله ‏وصحبه وسلَّم.‏" اهـ



اقتباس:=========================== الحاشية ====================

(1)‎ ‎‏: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن السيدة عَائِشَةَ رضي الله ‏عنها قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ، ‏فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: ‏‏"اللّهُمّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ. وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ. لاَ ‏أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ. أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ". صحيح مسلم ورواه الأربعة [أبو ‏داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجه].‏

(2) ‎ ‎‏: سورة البقرة – الآية 115.‏

(3) ‎ ‎‏: الخمرة في اصطلاح ساداتنا الصوفية رضي الله عنهم يطلقونها على الذات العلية قبل ‏التجلي، وعلى الأسرار القائمة بالأشياء بعد التجلي، فيقولون : الخمرة الأزلية تجلَّت ‏بكذا، ومن نعتها كذا، وقامت بها الأشياء تستراً على سر الربوبية ، وعليها غنى ‏سيدي سلطان العاشقين ابن الفارض رضي الله عنه وأرضاه في قصيدته المشهورة ‏بالخمرية، وإنما سمَّوها :"خمرة" لأنها إذا تجلَّت للقلوب غابت عن حسها كما تغيب ‏بالخمرة الحسية، وقد يطلقونها على نفس السكر، والوجد، والوجدان، يقولون: كنا ‏في خمرة عظيمة، أي في غيبة عن الإحساس كبيرة، وعلى هذا غنى العارف بالله ‏الششتري رضي الله عنه حيث قال:‏

خمرها دون خمري *** خمرتي أزلية

‏ أي: سكر خمرة الدوالي دون خمرتي، وأما الكأس الذي تشرب منه هذه الخمرة فهو ‏كناية عن سطوع أنوار التجلي على القلوب عند هيجان المحبة، فتدخل عليها حلاوة ‏الوجد حتى تغيب ، وذلك عند سماعٍ، أو ذكر، أو مذاكرة، وقيل: الكأس هو قلب ‏‏== الشيخ، فقلوب الشيوخ العارفين كؤوس لهذه الخمرة، يسقونها لمن صحبهم، ‏وأحبَّهم، والشرب حضور القلب، واستعمال الفكرة والنظرة، حتى تغيب عن وجودك ‏في وجوده، هو السكر ، فالشرب والسكر متصلان في زمن واحد في هذه الخمرة، ‏بخلاف خمرة الدنيا، وقال القطب سيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه: المحبة ‏أخذة من الله قلب من أحب بما يكشف له من نور جماله، وقدس كمال جلاله، ‏وشراب المحبة مزج الأوصاف بالأوصاف، والأخلاق بالأخلاقن والأنوار بالأنوارن ‏والأسماء بالأسماء، والنعوت بالنعوت، والأفعال بالأفعال، ويتسع النظر لمن شاء الله عز ‏وجل ، والشراب يسقي القلوب والأوصال والعروق، من هذا الشراب ، ويكون ‏الشرب بالتدريب بعد التدريب، والتهذيب بعد التهذيب، فيسقى كُلٌّ على قدره، ‏فمنهم من يسقى بغير واسطة، والله تعالى يتولَّى ذلك منه، وهذا نادر. ومنهم من ‏يسقى من جهة الوسائط كالملائكة والعلماء، والأكابر من المقربين. والكأس مغرفة ‏الحق يغرف بها من ذلك الشراب الطهور المحض الصافي لمن شاء من عباده ‏المخصوصين.

(4) ‎ ‎‏: سورة مريم - الآية 65.‏

(5) ‎ ‎‏: سورة الإنسان - الآية 6.‏

(6) ‎ ‎‏: سورة الحجر - الآية 99.‏" اهـ 198




(يتبع إن شاء الله تعالى مع: الدُّعـــــاءُ.‏.... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:09 PM

الدُّعـــــاءُ



‏" اللهمَّ أدخلني إلى الحضرة القدسية، من الباب الذي لا ‏تستره الحجب النورانية، والظلمانية، وأشهدني سرَّ تجلِّيك في ‏الآفاق وفي نفسي، حتى أشرب راحاً من العين بالعين، قبل أن ‏أدخل جنتي فأكون في ظلك سعيداً، ولنور وجهك شهيداً، ‏وبمددك قائماً بالعبودية، وبما أتلقاه من مواهبك هائماً في ‏شهود الذَّات العليَّة، يا قريب... يا مجيب... يا الله.... .‏


وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم".‏" اهـ199




(يتبع إن شاء الله تعالى مع: الرَّحمنُ جلَّ جَلاَلُه.... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:10 PM

الرَّحمنُ جلَّ جَلاَلُه


"إن هذا الاسم هو أوسع التنـزُّلات الإلهية، ولولا تنـزُّله ‏بالرحمة الشاملة التي حفظت مراتب الوجود لاندكَّ العالم ‏وتلاشى.‏


والرحمة هي: إرادة الخير للعالم.


أما معناها بالنسبة لنا؛ فهي: رقَّةٌ في القلب تقتضي ‏العواطف على كل محتاج، والحقُّ - سبحانه وتعالى - ‏منـزَّهٌ، إنما رحمته هي إرادة إيصال الخير الحقيقي للعباد (1) ‏.


و"الرحمن" هو المنعم بجلائل النعم مثل إنعامه بالوجود، ‏وبالحياة، وهي الروح التي هي من أمره، ومثل إنعامه علينا ‏بالإيمان، وإنعامه علينا بسيد الأنام صلى الله عليه وآله وسلم، ‏وإنعامه علينا بنـزول القرآن، وتلك النعم ليس لمخلوق فيها ‏فضل (2) ‏.‏


ولا يمكن لأي إنسان أن يكون له تخلُّقٌ بهذا الاسم لأنه من ‏خواص الذات العلية، ولأجل هذا المعنى لم يسمَّ بهذا الاسم أحدٌ ‏سوى الحق تعالى (3) ‏. وقد نبَّهنا الحق إلى هذا السرّ.‏


‏ فقال: ‏{ قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ ‏فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ‏ }‏ (4) .‏


والفرق بين تجلِّي حضرة الألوهية والرحمانية، أن حضرة ‏الألوهية: حضرة عزَّة، وغنى، وعلو، وعظمة، وكبرياء.‏ وحضرة الرحمانية : حضرة تنـزُّلٍ، وتفضُّل، وتودُّد، ‏وإحسان. لأن الرحمة تقتضي مرحومها، بخلاف الألوهية، فإنها ‏تقتضي عزَّةً وعلواً، وقد أشار القرآن إلى نور هذا الاسم.‏

‏ فقال: ‏{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء } (5) ‏‎. ‎ ‏


فما من موجود إلا وقد غمرته الرحمة، وشملته النعمة.‏


والرحمة دائرة واسعة شملت المؤمن والكافر، بخلاف المحبة ‏الإلهية، فإنها دائرة خاصة بأهل العناية.‏"اهـ200

اقتباس:======================= الحاشية =====================

(1) - ‎ ‎‏: وللأصفهاني في مفردات القرآن عبارة بسيطة محررة في تعريف الرحمة وكيف تطلق ‏على الإنسان وعلى الله تعالى بيَّن فيها الفرق بين الرحمة في حق الناس والرحمة في حق ‏الخالق سبحانه . يقول :" الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم ، وقد تستعمل ‏تارة في الرقة المجردة ، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة ، نحو رحم الله فلاناً ، وإذا ‏ وصف به الباري فليس يراد به إلا الإحسان المجرد دون الرقة . وعلى هذا روي ‏أن الرحمة من الله تعالى انعام وإفضال ، ومن الآدميين رقة وتعطف ، وعلى هذا قول ‏النبي صلى الله عليه وسلم ذاكراً عن ربه أنه لما خلق الرحم قال : أنا الرحمن ، وأنت ‏الرحم ، شققت اسمك من اسمي ، فمن وصلك وصلته ، ومن قطعك بتته . فذلك ‏إشارة إلى ماتقدم وهو أن الرحمن منطوية على معنيين : الرقة والإحسان ، فركز تعالى ‏في طباع الناس الرقة، وتفرد بالإحسان. فصار كما أن لفظ الرحم من الرحمة ، فمعناه ‏الموجود في الناس من المعنى الموجود لله تعالى فتناسب معناهما تناسب لفظيهما . ‏والرحمن الرحيم نحو ندمان ونديم ، ولايطلق الرحمن إلا على الله تعالى ، من حيث أن ‏معناه لايصح إلا له ، إذ هو الذي وسع كل شيء رحمة . والرحيم يستعمل في غيره ، ‏وهو الذي كثرت رحمته ، قال تعالى ‏{ إن الله غفور رحيم ‏}‏ ، وقال في صفة النبي ‏صلى الله عليه وسلم :‏‎ {‏ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص ‏عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}‏ . وقيل : إن الله تعالى هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ‏، وذلك أن إحسانه في الدنيا يعم المؤمنين والكافرين ، ومن الآخرة يختص بالمؤمنين ، ‏وعلى هذا قال : ‏{‏ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ‏}‏ تنبيهاً أنها في ‏الدنيا عامة للمؤمنين والكافرين ، وفي الآخرة مختصة للمؤمنين) انتهى (راجع مفردات ‏غريب القرآن مادة رحم )‏

(2) ‎ ‎‏: قال سيدي ابن عجيبة رضي الله عنه: والمختار في تفسير(الرحمن الرحيم)، أن ‏‏(الرحمن) : هو المنعم بنعمة الإيجاد، و(الرحيم) : المنعم بنعمة الإمداد . وفي الحكم : ‏نعمتان ما خلا موجود منهما ، ولا بد لكل مكون منهما نعمة الإيجاد ، ونعمة ‏الإمداد ، أمدك أولاً بالإيجاد ، وثانياً بتوالي الإمداد ، انتهى.‏

(3) ‎ ‎‏: قال سيدي ابن عجيبة الحسني والتخلق به: أن تنظر إلى كافة الخلق بعين الرحمة ، ‏كما قال بعض المشايخ:-‏



ارحم بني جميع الخلق كلهم = وانظر إليهم بعين اللطف والشفقه
وقّر كبيرهمُ وارحم صغيرهمُ = وراع في كل مخلوق حق من خلقه

1
2ارحـم بـنـي جمـيـع الخـلـق iiكلـهـم وانظر إليهم بعين اللطف iiوالشفقه
وقّــر كبيـرهـمُ وارحــم iiصغيـرهـمُ وراع في كل مخلوق حق من خلقه


(4) ‎ ‎‏: سورة الإسراء – الآية 110.‏

(5) ‎ ‎‏: سورة الأعراف – الآية 156.‏" اهـ204



(يتبع إن شاء الله تعالى مع: مناظرة بين إبليس لعنه الله ‏وسيدنا سهل بن عبد التستري ‏رضي الله عنه.... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:10 PM

مناظرة

بين إبليس لعنه الله ‏

وسيدنا سهل بن عبد التستري ‏رضي الله عنه


"ولقد طمع في تلك الرحمة إبليس !؛ فإنه لما تقابل مع ‏سيدنا سهل التستري (1) ، وقال له: إن الله قال: ‏{ وَرَحْمَتِي ‏وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (2)‏ ‏ ‏ ، وأنا شيء!، فرحمته وسعتني.‏

فقال له سهل: إن الله قيَّدها بقوله: ‏{ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ ‏يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ ‏} (3)‏ ‏ ‏.‏

فقال إبليس: إن التقييد منه لأجلك، والتقييد لا يحكم عليه ‏لأنه فوق القيود والحدود، فهو الملك المطلق.‏
قال تعالى: ‏{ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } (4)‏ ‏ ‏.‏

قال سيدنا سهلٌ - رضي الله عنه -: فمن فتح عليه في ‏هذه المسألة بجواب فليثبته هنا، وقد سمعت من الإمام أبي ‏العزائم رضي الله عنه – في هذا الجواب أنه قال:" إن الله ‏تعالى له أسماء جمال، وأسماء جلال، مثل اسمه "الغفَّار، القهَّار، ‏الضار، النافع، المعطي، المانع" فكلُّ اسمٍ له مظاهر من عباد ‏سبق في علمه تعالى، أنهم أهلٌ لتلك المعاني لا تغيير ولا تبديل، ‏فلا بدَّ من أن يأخذ كل منهم ما قسم له في الأزل، ولا مفرَّ ‏من القدر، ومع ذلك فإننا إن تتبَّعنا جميع المظاهر والمناظر ‏وجدنا الكلَّ في عين الرحمة، فمثلاً اسمه "المانع" رحمة بمن منع ‏لأنه لو أعطاه لطغى وبغى (5) ‏. قال تعالى:‏ {كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ‎}‏. ‏(6)


فالناس في نظر الله كالمرضى، فهو يعطيهم الدواء على قدر ‏الداء، فإذا أعطى الفقر أو المرض، أو أي بلاء للإنسان، وهو ‏دواء مر، ففي باطنه الرحمة والمرارة نعمة. فقد يمنع الإنسان ‏ولده المريض عن أكل اللحم والحلوى، وهو كلُّه رحمة بولده، ‏وقد يمسكه بيده للطبيب لعملية جراحية أو يفصد له عرقاً ‏والولد يتألَّم والوالد كلُّه رحمة.‏


بل إنك إذا نظرت إلى النار بعين الاعتبار وجدت في ‏باطنها رحمةً لأنها حمَّام يذيب الأوساخ، ويأكل الغواشي، ‏ويرجع الإنسان إلى حقيقته، فيعرف نفسه وربه، ولولا النار ‏ما عرف "القهَّار".‏
النار تطهِّر من المعاصي والحجب الظلمانية، وتحرق من ‏الكافر الأنانية.‏


وما من سيف لقمع ظالم ، أو سلاح لقهر غاشم، إلا وهو ‏رحمة بالمتمع الإنساني، وأكثر رحمة تتجلَّى في القصاص؛ فإذا ‏وجب القتل على إنسان فقُتِل، كان ذلك رحمة. ‏


وإذا ثبتت السرقةعلى لصٍّ فقطعت يده كان ذلك هو ‏الرحمة.‏


وأعظم رحمة للأرواح والأشباح تتجلَّى في الشريعة ‏المحمدية، إلا أن أعظم رحمة وهبت للوجود هي رسول الله ‏صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فإن الله تعالى قال:‏‎ { وَمَا ‏أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }‏ ‏ ‏.‏ (7)


فقد رحم الله به - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - ‏القلوب فانتبهت وعرفت، ورحم به الأرواح فشاهدت ‏وعشقت، ورحم الله به النفوس فتزكَّت وخضعت، ورحم ‏به الأجسام فركعت وسجدت. ‏
رحم الله العوالم فعرفت الحرية والمساواة، وكشف الستار ‏عن الجمال الإلهي فدخل المؤمنون في معية الله.‏


فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو مظهر الرحمة ‏الجامعة الكلية، ومن أراد أن يسبح في بحار الرحمة فليتشبَّه برسول الله ‏‏- صلى الله عليه وآله وسلم - في أعماله وأخلاقه المرضية.‏


ومن جلائل النعم ومظاهر الرحمة والكرم: القرآن الكريم، ‏ولولا تنـزل الرحمن ببيان القرآن، لما تحمَّله إنسان؛ وكيف ‏تتحمَّل البريَّة كلام الذات العلية؟. ولكنه أمدَّ القلوب بواسع ‏الرحمة، ثم واجهها بوافر النعمة، فتجمَّلت بمدده الرحماني.‏" اهـ 211


اقتباس:=============================== الحاشية =============================

(1) ‎ ‎‏: سهل بن عبد الله التستري أبو محمد، أحد أئمة القوم وعلمائهم. والمتكلمين في علوم ‏الرياضيات والإخلاص. وعيوب الأفعال، وكان رضي الله عنه ذا ورع، وله كرامات، ‏سكن البصرة زماناً، وعبادان مدة. قال ابن الملقن: وأظنه مات بتستر، سنة 273 أو ‏‏283 هـ. ‏
‏ انظر: حلية الأولياء 10/189، طبقات ابن الملقن 232، طبقات السلمي 206.‏

(2) ‎ ‎‏: سورة الأعراف – الآية 156.‏

(3) ‎ ‎‏: سورة الأعراف – الآية 156.‏

(4) ‎ ‎‏: سورة الرعد – الآية 39.‏

(5) ‎ ‎‏: ذلك لأنه سبحانه وتعالى خلق عباده على أوصاف شتى فمنهم القوي والضعيف ‏والوضيع والشريف فمن علم من قلبه قوة على حمل أعباء الفقر الذي هو أشد البلاء ‏صبر على تجرع مرارته أفقره في الدنيا ليرفعه على الأغنياء في العقبى ومن علم ضعفه ‏وعدم احتماله وأن الفقر ينسيه ربه صرفه عنه لأنه لا يحب أن عبده ينساه أو ينظر إلى ‏من سواه، فسبحان الحكيم العليم.‏

‏ قال سيدي ابن عطاء الله في حكم: "ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك"، "متى ‏فتح لك باب الفهم في المنع عاد المنع هو عين العطاء"، "متى أعطاك أشهدك بره ومتى ‏منعك أشهدك قهره فهو في كل ذلك متعرف إليك ومقبل بوجود لطفه عليك"، "إنما ‏يؤلمك المنع لعدم فهمك عن اللّه فيه".‏

‏ وقال سيدي العارف بالله عبد القادر الجيلاني: للنفس حالان ولا ثالث لهما حال ‏عافية وحال بلاء فإن كانت في بلاء فشأنها غالباً الجزع والشكوى والاعتراض ‏والتهمة للّه بغير صبر ولا رضى ولا موافقة بل محض سوء أدب وشرك بالخلق ‏والأسباب وإن كانت في عافية ونعمة فالأشر والبطر واتباع الشهوات كلما نالت ‏شهوة تبعت أخرى وتطلب أعلا منها وكلما أعطيت ما طلبت توقع صاحبها في تعب ‏لا غاية له وشأنها إذا كانت بلاء لا تتمنى إلا كشفه وتنسى كل نعيم ولذة فإذا شفيت ‏رجعت إلى رعونتها وأشرها وبطرها وإعراضها عن الطاعة وتنسى ما كانت فيه من ‏البلاء فربما ردّت إلى ما كانت فيه من البلاء عقوبة وذلك رحمة من اللّه بها ليكفها عن ‏المخالفة فالبلاء أولى بها ولو أنها لم ترجع لرذائلها لكنها جهلت فلم تعلم ما فيه ‏صلاحها.‏

(6) ‎ ‎‏: سورة العلق الآيتان 6و7.‏

(7) ‎ ‎‏: سورة الأنبياء – الآية 107.‏"اهـ211




(يتبع إن شاء الله تعالى مع: المعلِّم للأكوان هو الله الرحمن.... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:11 PM

المعلِّم للأكوان هو الله الرحمن


"قال تعالى‎ {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ ‏الْبَيَانَ } (1)‏ ‏ ‏. ‏


فمن كشف له سرُّ هذه الآية هام في الحبيب.‏


أنت تعلَّمت القراءة على أستاذ، ثم فهمت معانيها على ‏عالم، ثم تلقَّيت أسرارها على يد مرشد عارف، وكلُّ ذلك ‏ستائر ومظاهر.‏


فقد صرَّح القرآن أنه: هو الذي علَّمك، وفهَّمك، ‏ووفَّقك، وألهمك، فارفع عنك هذه البراقع، وشاهد الرحمن ‏النافع، فإذا منحت البيان، فاشهد الملك المبين، الذي علَّمك ‏ولا تحجب بعقلك المقيد عن " الرحمن". ‏


قال تعالى:‏‎ { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ‏لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون } (2)
‏ ‏ ‏.‏
وقال سبحانه:‏‎ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ ‏أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَة } (3)
‏ ‏ ‏.‏
وقال: ‏{ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ ‏الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ ‏فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ إِلا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَى ‏حِينٍ }(4)‏ ‏ ‏.‏

وقال:‏‎ { فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ ‏بَعْدَ مَوْتِهَا } (5)‏ ‏ ‏.‏

وانظر إلى رحمة الحيوانات لأبنائها، وعطف الوحوش على ‏ذريَّتها، وحرص الطيور على أفراخها، وقل: سبحان المتجلِّي ‏بالرحمة في جميع العالمين.‏


وقد ورد في الحديث الصحيح: أن لله تعالى مائة رحمة، ‏نشر منها رحمة واحدة بين العالمين، بها يتراحمون، وتعطف ‏البهائم على أبنائها، وادَّخر منها تسعة وتسعين ليوم ‏القيامة (6) ‏.‏" اهـ


اقتباس:======================= الحاشية ====================

(1) ‎ ‎‏: سورة الرحمن - الآيات 1-4.‏
(2) ‎ ‎‏: سورة القصص - الآية 73.‏
(3) ‎ ‎‏: سورة الروم - الآية 21. ‏
(4) ‎ ‎‏: سورة يسن – الآيات 46-50.‏
(5)‎ ‎‏: سورة الروم – الآية 50.‏

(6) ‎ ‎‏: روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ‏‏"إِنّ للّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ. أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامّ. فَبِهَا ‏يَتَعَاطَفُونَ. وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ. وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَىَ وَلَدِهَا. وَأَخّرَ اللّهُ تِسْعاً وَتِسْعِينَ ‏رَحْمَةً. يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

وعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسيّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ‏صلى الله عليه وسلم "إِنّ للّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ. فَمِنْهَا رَحْمَةٌ بِهَا يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ بَيْنَهُمْ. ‏وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ".وعنه رضي الله عنه أيضاً قال: : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى ‏الله عليه وسلم: "إِنّ اللّهَ خَلَقَ، يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلّ رَحْمَةٍ ‏طِبَاقَ مَا بَيْنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ. فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الأَرْضِ رَحْمَةً. فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَىَ ‏وَلَدِهَا. وَالْوَحْشُ وَالطّيْرُ بَعْضُهَا عَلَىَ بَعْضٍ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ ‏الرّحْمَةِ".

وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ أَنّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ‏بِسَبْيٍ. فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السّبْيِ، تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيّا فِي السّبْيِ، أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ ‏بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ. فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً ‏وَلَدَهَا فِي النّارِ؟" قُلْنَا: لاَ. وَاللّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَىَ أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى ‏الله عليه وسلم: "لله أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا".

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ‏صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بِجَنّتِهِ ‏أَحَدٌ. وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللّهَ مِنَ الرّحْمَةِ، مَا قَنِطَ مِنْ جَنّتِهِ أَحَدٌ".وعَنْه أيضاً أَنّ ‏رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ، لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطّ، لأَهْلِهِ: إِذَا ‏مَاتَ فَحَرّقُوهُ. ثُمّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ. فَوَاللّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللّهُ عَلَيْهِ ‏لَيُعَذّبَنّهُ عَذَاباً لاَ يُعَذّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ. فَلَمّا مَاتَ الرّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ. فَأَمَرَ اللّهُ ‏الْبَرّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ. وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ. ثُمّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ ‏خَشْيَتِكَ. يَا رَبّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ. فَغَفَرَ اللّهُ لَهُ".‏

‏ قال الإمام النووي رضي الله عنه في شرحه للحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: ‏‏"جعل الله الرحمة مائة جزء إلى آخره" هذه الأحاديث من أحاديث الرجاء والبشارة ‏للمسلمين، قال العلماء: لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار المبنية ‏على الأكدار والإسلام والقرآن والصلاة والرحمة في قلبه وغير ذلك مما أنعم الله تعالى ‏به فكيف الظن بمائة رحمة في الدار الاَخرة وهي دار القرار ودار الجزاء والله أعلم. ‏هكذا وقع في نسخ بلادنا جميعا جعل الله الرحمة مائة جزء. وذكر القاضي جعل الله ‏الرحم بحذف الهاء وبضم الراء قال ورويناه بضم الراء ويجوز فتحها ومعناه الرحمة.‏" اهـ 4/216




(يتبع إن شاء الله تعالى.... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:11 PM

"فالشدَّة منه رحمة، والألم منه نعمة، وقد أشار القرآن ‏الكريم إلى سرِّ من تجلي الرحمن، فقال:‏‎ { إِن كُلُّ مَن فِي ‏السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ ‏وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ‏}‏ (1)‏ ‏.‏


المعنى - والله أعلم -: أن جميع من في السموات، ومن في ‏الأرض يأتون يوم القيامة بمنـزلة عبد واحدٍ للرحمن، لأن ‏الكلَّ في نظره سبحانه وتعالى كشخص واحد، وهذه أكبر ‏نعمة، حيث أن المواجه لهم الرحمن، وكلهم آتيه يوم القيامة ‏في حكم الفرد الواحد، ولو أنه قال: "إلا آتي القهَّار " لذابت ‏السرائر، وحارت البصائر.‏


قال الله تعالى:‏‎ {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ ‏الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا}‏(2) ‏ ‏.‏


وحيث أن الإذن من الرحمن فبشرى لبني الإنسان، وقد ‏نبَّهنا إلى شمول الرحمة لكلِّ عالٍ ودان، بقوله تعالى:‏‎ ‎{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏ }‏(3) ‏ ‏. ‏


والعرش العظيم محيط بمراتب العوالم كلِّها، كإحاطة أسوار ‏المنـزل بأهله، وحيث أن الرحمن استوى عليه فقد عمَّته ‏رحمة الرحمن.‏


ومعنى استواء الرحمن : يعني استواء يليق بحضرته مع ‏التنـزيه.‏


قال تعالى: ‏{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}‏ (4)‏ ‏.‏


ويجوز أن تفهم الآية أنه "استوى" يعني: استولى عليه ‏تصرُّفاً ونفوذاً رحمانياً، حنانيّاً.


ويجوز أن تقول: "استوى" يعني: ظهر بنور جماله وضياء ‏لطفه حتى عرفه العارفون، ولولا تجلِّيه بالرحمة لذاب منه ‏المؤمنون خوفاً.‏


الرحمن هو الذي يؤنس القلوب بوداده، وبأسرها برحمته ‏ليشهدها سر مراده، لأن العارفين لحضرة الرحمن هم ‏المخصوصون بالرضوان.‏


قال تعالى:‏‎ { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ ‏هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا }‏ (5) ‏ ‏.‏


فـ"عبد الرحمن" هيِّنٌ، ليِّنٌ؛ لا يؤذي مخلوقاً، ولا يتعالى ‏على مخلوق، يرحم الجميع ويدعو لهم بالتوفيق والهداية، تجلَّى ‏له الرحمن في كل أطوار الوجود فأنس به، وصار مستغرقاً في ‏الشهود، يشهد سرَّ "الرحمن" عند أكله، وشربه، ونومه، ‏وحركاته، وسكناته، ولولا رحمة الله لما سعد الإنسان ‏بـ"الرحمن".‏


ومتى ذكر العبد"الرحمن" وهو مستحضر لتلك المعاني ‏هامت روحه في أنوار"الرحمن" وتجلَّى له سرُّ الحديث ‏الشريف:‏ ‏(خلق الله آدم على صورة "الرحمن"، ولو خلقه على ‏صورة "الجبار" أو "القهَّار" لما أنس به أحد) (6)‏ ‏. ‏


فصورة آدم مخلوقة حادثة إلا أنها على مثال الرحمة، تقرب ‏للعقول معنى سريان رحمته ولطفه، وكمه في الجمادن فتحرّك ‏ونطق، وسمع وأبصر، وتدبَّر وفكَّر.‏


ومن رحمته أنه حجبنا عن سُبُحات جلاله وأنوار عزَّته، ولو ‏كشفها لاحترق العالم في الحال، فسبحان من أبقى العالم في ‏رحمته برحمته، وهو العلي في عظمته.‏


الدُّعــــاءُ


‏" إلهي ..... يا رحمن الوجود، يا من وسعت كل شيء رحمةً ‏وعلما، ظهرت رحمتك في كل ذرات الوجود والعالم، فلا نرى ‏شيئاً إلا ونقرأ من آيات رحمتك ما يجذبنا إليك، ويطمئن قلبنا ‏بواسع حنانك.‏

أشهِدْ عيون قلوبنا حضرة الرحمانية وأنوارها، حتى تكون ‏عرشاً لظهور أنوارك يا "رحمن".‏


وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم".‏" اهـ 226



اقتباس:======================== الحاشية ======================

(1)‎ ‎‏: سورة مريم الآيتان 93-94.‏
(2) ‎ ‎‏: سورة طه - الآية 109.‏
(3) ‎ ‎‏: سورة طه - الآية 5.‏
(4) ‎ ‎‏: سورة الشورى - الآية 11.‏
(5) ‎ ‎‏: سورة الفرقان - الآية 63.‏

(6) ‎ ‎‏: ‏قال العلامة المناوي في "فيض القدير"، شرح الجامع الصغير، 3/430 وما بعدها - ‏الحديث رقم: 3928 : رواه الإمام أحمد في المسند، والشيخان، بسندهم عن أبي ‏هريرة، ورواه عنه الطبراني وغيره. (خلق اللّه آدم على صورته) أي على صورة آدم ‏التي كان عليها من مبدأ فطرته إلى موته لم تتفاوت قامته ولم تتغير هيئته بخلاف بنيه ‏فإن كلاً منهم يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً وأعصاباً عارية ثم مكسوة لحماً ‏ثم حيواناً مجنناً لا يأكل ولا يشرب ثم يكون مولوداً رضيعاً ثم طفلاً مترعرعاً ثم مراهقاً ‏ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً أو خلقه على صورة حال يختص به لا يشاركه أنواع أخر ‏من المخلوقات فإنه يوصف مرة بالعلم وأخرى بالجهل وتارة بالغواية والعصيان وطوراً ‏بالهداية والاستغفار ولحظة يقرن بالشيطان في استحقاق اسم العصيان والإخراج من ‏الجنان ولحظة يتسم بسمة الاجتباء ويتوج بتاج الخلافة والاصطفاء وبرهة يستعمل بتدبير الأرضين وساعة يصعد بروحه إلى عليين وطوراً يشارك البهائم في مطعمه ‏ومنكحه وطوراً يسابق الكروبيين في ذكره وفكره وتسبيحه وتهليله وقيل الضمير للّه ‏تعالى بقرينه رواية خلق آدم على صورة الرحمن - والمراد بالصورة الصفة والمعنى أن ‏اللّه خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك وإن كانت صفات ‏اللّه لا يشبهها شيء -. والمعنى خلق آدم على صورة اجتباها وجعلها من جميع ‏مخلوقاته إذ ما من موجود إلا وله مثال في صورته ولذلك قيل الإنسان عالم صغير. ‏

‏ قال سيدي محيي الدين بن عربي رضي الله عنه : لما وصل الوقت المعين في علمه تعالى ‏لإيجاد هذا الخليفة الذي يهدي اللّه المملكة بوجوده وذلك بعد أن مضى من عمر ‏الدنيا سبعة عشر ألف سنة أمر بعض ملائكته أن يأتيه بقبضةة من كل أجناس تربة ‏الأرض فأتاه بها فأخذها سبحانه وخمرها بيده حتى تغير ريحها وهو المسنون وهو ذلك ‏الجزء الهوائي الذي في الإنسان وجعل جسده محلاً للأشقياء والسعداء من ذريته وجمع ‏في طينته الأضداد بحكم المجاورة وأنشأه على الحركة المستقيمة وذلك في دولة السنبلة ‏وجعله ذا جهات ست فوق وهو ما يلي رأسه وتحت وهو ما يلي رجليه ويمين وهو ‏ما يلي جانبه الأقوى وشمال وهو ما يلي جانبه الأضعف وأمام وهو ما يلي الوجه ‏وخلف وهو ما يلي الفضاء وصوَّره وعدله وسوّاه ثم نفخ فيه روحه المضاف إليه ‏فسرى في أجزائه أربعة أركان الأخلاط إذ كانت الصفراء عن الركن الناري والسوداء ‏عن التراب، والدم عن الهواء وهو قوله مسنون والبلغم من الماء الذي عجن به التراب فصار طيناً ثم أحدث فيه القوة الجاذبة التي بها تجذب الأغذية ثم الماسكة وبها ‏يمسك الحيوان ما يتغذى به ثم الهاضمة وبها يهضم الغذاء ثم الدافعة وبها يهضم ‏الفضلات عن نفسه من عرق وبخار وريح وبراز وأما سريان الأبخرة وتقسم الدم في ‏العروق وفي الكبد فبالقوة الجاذبة لا الدافعة ثم أحدث فيه القوة الغاذية والمنمية ‏والحاسة والخيالية والوهمية والحافظة والذاكرة وهذا كله في الإنسان بما هو حيوان لا ‏بما هو إنسان فقط إلا أن هذه القوى الأربع قوة الخيال والوهم والحفظ والذكر في ‏الإنسان أقوى ثم خصت بالقوة المصورة المفكرة والعاقلة وجعل هذه القوى آلات ‏للنفس الناطقة ليصل بها إلى جميع منافعها وجعله داراً لهذه القوى فتبارك اللّه أحسن ‏الخالقين ثم ما سمى نفسه باسم من الأسماء إلا وجعل للإنسان من التخلق به حظاً منه ‏يظهر به في العالم على قدر ما يليق به، ولذلك تأول بعضهم قوله في الخبر خلق اللّه ‏آدم على صورته على هذا المعنى والحديث خرج مخرج الزجر والتهويل لوروده عقب ‏قوله لا تقولوا قبح اللّه وجهك فإن اللّه خلق آدم على صورته أي صورة هذا الوجه ‏المقبح ذكره القاضي.

(وطوله ستون ذراعاً) بذراع نفسه أو بالذراع المتعارف يومئذ ‏للمخاطبين أو بالذراع المعروف عندنا ورجح الأول بأن حسن الخلق يقتضي اعتدال ‏الأعضاء وتناسبها ومن قصرت ذراعه عن ربع قامته أو طالت خرج عن الاعتدال ‏ومن قامته ستون ذراعاً بذراع نفسه فذراعه سدس من عشر قامته فيخرج عن ‏الاعتدال وزاد أحمد في روايته بعد ما ذكر في سبعة أذرع عرضاً ولم ينتقل أطوراً كذريته (ثم قال له اذهب فسلم على أولئك النفر) فيه إشعار بأنهم كانوا على بعد ‏ولا حجة فيه لمن أوجب ابتداء السلام لأنها واقعة حال لا عموم لها (وهم نفر من ‏الملائكة جلوس) قال ابن حجر: لم أقف على تعيينهم (فاستمع) في رواية فاسمع (ما ‏يحيونك) بمهملة من التحية وفي رواية بجيم من الجواب (فإنها تحيتك وتحية ذريتك) من ‏جهة الشرع أو أراد بالذرية بعضهم وهم المسلمون (فذهب فقال السلام عليكم) ‏يحتمل أنه تعالى علمه كيفية ذلك نصاً وكونه فهمه من قوله له سلم وكونه ألهمه ذلك ‏‏(فقالوا السلام عليك ورحمة اللّه) وهذا أوّل مشروعية السلام وتخصيصه لأنه فتح باب ‏المودة وتأليف لقلوب الأخوان المؤدي إلى استكمال الإيمان كما في خبر مسلم: لا ‏تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه ‏تحاببتم أفشوا السلام بينكم واستأنس بهذا من أجاز حذف الواو في الرد ووجهه أن ‏المسلم عليه مأمور بمثل تحية المسلم عدلاً وأحسن منها فضلاً فإذا رد بالمثل أتى بالعدل ‏‏(فزادوه) الضمير لآدم والزيادة تتعدى إلى مفعولين ومفعوله الثاني

قوله (ورحمة اللّه) ‏وفيه مشروعية زيادة الرد واتفقوا على وجوب الرد لأن السلام الآمان فإذا ابتدأ به ‏المسلم فلم يحيه أوهم الشر قال القرطبي: وقد دل هذا الخبر على تأكد السلام وأنه من ‏الشرائع القديمة الذي كلف بها آدم ثم لم تنسخ في شريعة اهـ لكن في خبر ما ‏حسدتكم اليهود إلخ يدل على أنه من خصوصياتنا (فكل من يدخل الجنة) من بني آدم ‏يدخلها وهو (على صورة آدم) أي على صفته في الحسن والجمال والطول ولا يدخلها ‏على صورة نفسه من نحو سواد وعاهة وهو يدل على عفة البعض من نحو سواد ‏ينتفي عند دخولها (في طوله ستون ذراعاً) بذراع نفسه أو بقدر الذراع المتعارف ‏يومئذ عند المخاطبين أو بذراع الشرع المعروف الآن على ما تقرر فيما قبله وروى ابن ‏أبي الدنيا عن أنس مرفوعاً يدخل أهل الجنة على طول آدم ستين ذراعاً بذراع الملك ‏على حسن يوسف وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين اهـ

وقال ابن حجر: وروى ‏عبد الرزاق أن آدم لما هبط كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء فحطه اللّه إلى ‏ستين ذراعاً فظاهره أنه كان مفرط الطول في ابتداء فطرته وظاهر هذا الحديث أنه ‏خلق ابتداء على طول ستين ذراعاً وهو المعتمد (فلم تزل الخلق تنقص بعده) في ‏الجمال والطول (حتى الآن) فانتهى التناقص إلى هذه الأمة واستقر الأمر على ذلك ‏فإذا دخل الجنة عادوا إلى ما كان آدم عليه من الكمال والجمال وامتداد القامة وحسن ‏الهامة وفي مثير الغرام في زيارة القدس والشام أن آدم كان أمرد وإنما حدثت اللحية ‏لولده وكان أجمل البرية.

قال السمهودي: ما ذكر من الصفات من طول آدم وغيره ‏ثابت لكل من دخل الجنة كما تقرر فيشمل من مات صغيراً بل جاء ما يقتضي ثبوت ‏جميع ذلك للسقط فروى البيهقي بسند حسن عن المقداد ما من أحد يموت سقطاً ولا ‏هرماً وأنحاء الناس فيما بين ذلك إلا بعث ابن ثلاث وثلاثين فإن كان من أهل الجنة ‏كان على مسحة آدم وصورة يوسف وقلب أيوب ومن كان من أهل النار عظم ‏كالجبال، والآن بالنصب ظرف يعني حتى وصل النقصان إلى الوقت الذي ذكر النبي ‏صلى اللّه عليه وسلم فيه الحديث قيل هذا مقدم في الترتيب على قوله فكل من يدخل ‏الجنة إلخ.‏" اهـ 4/226



(يتبع إن شاء الله تعالى مع: الرَّحِيمُ جَلَّ جَلالُه..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:12 PM

الرَّحِيمُ جَلَّ جَلالُه


"هذا الاسم معناه : المنعم بدقائق النعم مثل الضروريات ‏للإنسان، والكماليات للوجود.‏


فمن رحمته بنا: سخَّر الماء والهواء، والشمس والقمر، ‏والنجوم ، ثم يسَّر لنا السبيل ووهب العقل، وهو خير دليل. ‏وأنبت الأرض بأنواع الحبوب والغذاء، ثم أخرج مرعى ‏الحيوانات، لأنه أرحم الراحمين، ثم رحمنا بالفم الذي يذوق ، ‏والمعدة التي تهضم، والأنف الذي يميز الطَّيب من الخبيث.‏


ورحمنا بالأرجل التي تحملنا، والأيدي التي تدافع عنا، والعين ‏التي تبصر، والأذن التي تسمع، والفكر الذي يدبِّر، ثم أكرم ‏الإنسان بأنواع الفواكه التي تشرح الصدر بلونها وطعمها.‏


ورحمنا بالدَّواء الذي يغيثنا من شدَّة المرض، ومنحنا الشعور ‏الذي ينذر الألم والراحة، ومكَّننا من المال الذي به جلب ‏السعادة.‏


فإذا أراد العبد نيل الرِّضا من الله، والتَّنعُّم بالوصال في ظلِّ حماه، ‏عطف قلبه فشعر بألم المتألِّم، وأخذته الرحمة على الجائع، وعطف ‏على العاصي، ولو كان خصماً له، لأنه يشعر بأنه يوهي في مهاوي ‏الضَّلال، ومآله إلى الوبال فنصحه ووعظه ‏(1) .‏


وعطف على المتخاصمين فبل وسعه في الصلح والإصلاح، ‏ورحم الجاهلين؛ فبيَّن لهم طريق النَّجاح، فلا يرى محتاجاً إلا ‏ويرق لحاله، ويواسيه بماله، ولا يرى عاصياً إلا ويلاطفه ‏بالنصيحة، ويسأل الله له التوبة، وعدم الفضيحة. ولا يرى ‏يائساً من الرحمة إلا طمأنه، لسانه لسان رحمة، وأخلاقه ‏أخلاق رحمة، ومعاملته معاملة رحمة، وهذا هو الذي نال ‏قسطاً وافراً من الخلق الإلهي في الرحمة.‏ورد في الحديث الصحيح: (من لا يرحم لا يُرحم)‏ (2) ‏.‏


وصاحب الخُلُق الحسن ينال ثواب الصائم القائم ‏.‏ (3) " اهـ4/229

اقتباس:=================== الحاشية ===================


(1) ‎ ‎‏: وما هذا كله إلا لأنه تخلَّق بخلق "الرحيم" حيث إذ التخلُّق به يكون بإغاثة المساكين، ‏وإغاثة الملهوفين، والرفق بعباد الله أجمعين، طائعهم، وعاصيهم، دانيهم، وقاصيهم، ‏وكون ذلك شكراً لما أسداه من نعمه، وما أوصله من كرمه، وتعرض لنفحات كرمه.‏

(2) ‎ ‎‏: قوله صلى الله عليه وسلم: ( من لا يَرحم لا يُرحم ). رواه الإمام أحمد في مسنده ، ‏والبخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي عن أبي هريرة. ورواه ايضاً الشيخان ‏بسندهما عن جرير بن عبد الله . ‏ انظر: الجامع الصغير للسيوطي الحديث رقم 9090.‏

(3) ‎ ‎‏: حديث "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم ولا يتم لرجل حسن ‏خلقه حتى يتم عقله فعند ذلك تم إيمانه وأطاع ربه وعصى عدوه إبليس" قال الحافظ ‏العراقي في نخريج أحاديث الإحياء : أخرجه ابن المجبر من رواية عمرو بن شعيب عن ‏أبيه عن جده به، والحديث عند الترمذي مختصر دون قوله "ولا يتم" من حديث ‏عائشة وصححه. ‏

‏ وقد جاء في حسن الخلق والحث على الرحمة أحاديث كثيرة منها: ما ورد عند الطبراني ‏بلفظ: ( إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل، الظامئ بالهواجر). وفي ‏رواية له أيضا: ( إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل ‏وإنه لضعيف العبادة). وروى الإمام أحمد والطبراني مرفوعا: (إن المسلم المسدد ليدرك ‏درجة الصوام القوام بآيات الله بحسن خلقه وكرم ضريبته) والضريبة الطبيعة وزنا ‏ومعنى. وروى الطبراني مرفوعا: (عن جبريل عليه السلام عن الله تعالى قال: (إن هذا ‏دين ارتضيته لنفسي، ولن يصلح له إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما ‏صحبتموه). وروى الطبراني مرفوعا: (أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه الصلاة ‏والسلام: يا خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل الجنة مع الأبرار، وإن كلمتي ‏سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي، وأن أسقيه من حضيرة قدسي، وأن ‏أدنيه من جواري). وروى الطبراني والبزار: (أن أم حبيبة قالت: يا رسول الله: المرأة ‏‏يكون لها زوجان ثم تموت فتدخل الجنة هي وزوجاها لأيهما تكون للأول أو ‏الآخر؟ قال: تخير أحسنهما خلقا كان معها في الدنيا يكون معها في الجنة، يا أم حبيبة ‏ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة). والأحاديث في ذلك كثيرة. والله تعالى أعلم.‏

‏ ويحتاج العامل بهذا الخلق إلى السلوك على يد شيخ ناصح حتى تلطف كثائفه ويخرجه ‏من درجات الجفاء إلى درجات حسن الخلق، ومن لم يسلك على يد شيخ لازمه غالبا ‏سوء الخلق إلا أن تحفه العناية من الأزل، فمثل هذا لا يحتاج إلى شيخ في ذلك إن شاء ‏الله.‏

‏ ورد أن الإمام الشافعي رضى الله عنه كان مشهورا بحسن الخلق، فعمل الحسدة على ‏إغضابه، فلم يقدروا فبرطلوا الخياط مرة أن يعمل له الكم اليمين ضيقا جدا لا يخرج ‏يده منه إلا بعسر ويعمل اليسار كالخرج، فلما رآه الإمام قال له: جزاك الله خيرا، ‏الذي ضيقت كمي اليمين لأجل الكتابة ولم تحوجني إلى تشميره، ووسعت اليسار ‏لأحمل فيه الكتب، مع أنه كان يقول رضى الله عنه: " من استغضب فلم يغضب فهو ‏حمار، ومن استرضى فلم يرضَ فهو شيطان" ، فيحمل قوله هذا على غضبه لله تعالى، ‏ويحمل عدم غضبه على غضبه لحظ نفسه، فالكمل على الأخلاق الإلهية والله تعالى ‏يغضب لغيره ولا يغضب لنفسه، فلو انتقم تعالى لنفسه لأهلك الخلق كلهم في لمحة ‏فافهم.‏

وورد أيضاً أنهم صبوا مرة على الجنيد غسالة سمك وهو خارج لصلاة الجمعة ‏فعمته من جمته إلى ذيله، فضحك وقال: من استحق النار فصولح بالماء لا ينبغي له ‏الغضب، ثم عاد إلى البيت واستعار ثوب زوجته فصلى فيه.‏

‏ وكان السلف الصالح رضى الله عنهم كلهم يقولون: الدرجات هي الخلق الحسن، فمن ‏زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدرجات، وكانوا إذا آذاهم إنسان يعتذرون إليه ‏ويقولون: نحن الظالمون عليك، ولو أنا أطعناك فيما طلبته منا ما آذيتنا فاللوم علينا لا ‏عليك وكانوا إذا بلغهم عن امرأة أو عبد سوء خلق تزوجوها أو اشتروا العبد وصبروا ‏على سوء خلقهما، وكذلك كانوا يشترون الحمارة أو البغلة الحرون فيركبونها ولا ‏يضربونها يروضون نفوسهم في الصبر عليها. فالواجب على كل مؤمن أن يروض ‏نفسه ليصبر على تحمل أذى الناس والدواب ولا يخرج إلى طبع المجانين، فإن حكم ‏هؤلاء الذين ذكرناهم حكم المجانين بلا شك، فاعلم أن من أعظم حسن الخلق صبرك ‏على من تقدر على تنفيذ غضبك فيه ثم تتركه كزوجتك.‏

‏ كان سيدي علي الخواص شيخ الإمام الشعراني رضي الله عنهما وعن الصالحين ونفعنا ‏بهم في الدارين كان يقول: لي مع ابنة عمى سبع وخمسون سنة ما أظن أننا بتنا ليلة ‏واحدة صلحاء إلى يومنا هذا. وكذلك من أعظم حسن الخلق أن يكون الإنسان نفّاعا ‏للناس ومع ذلك يذمونه وينقصونه فلا يمنعه ذلك من النفع لهم،. فالعبد لا يعامل إلا ‏‏ الله وأما الخلق فمفاليس ليس معهم شيء يأخذه منهم يوم القيامة، فهذا من أعظم ‏أخلاق الرجال فاعلم ذلك واعمل عليه وفقنا الله لما فيه ‏رضاه." اهـ



(يتبع إن شاء الله تعالى .... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:12 PM

"ومتى ذكرت اسمه تعالى"الرحيم" وأنت مستحضر رحمته ‏بك وبالعالم، انجذب قلبك إلى التخلُّق بأخلاق حبيبك ‏سبحانه وتعالى، وعند ذلك تلبس حلةً إلهية، نورانيَّةً، مفاضةً ‏من الحضرة القدسية، وهي أن يكتبك الله عنده رحيماً؛ ‏والرحيم هو "الله" وأنت لابس حلَّة "الرحيم" فيحبّك الله لهذا ‏المعنى الذي منه، وإن ملائكة اسماء تتنـزَّل لزيارة صاحب ‏الخلق الإلهي، لأنه لبس حلَّة سيده، وتجمَّل بجمال موجدِه. ‏


والذي لبس هذه الحُلَّة في الظاهر والباطن هو سيد المرسلين ‏صلى الله عليه وآله وسلم.‏


فقد صرَّح القرآن بقوله:‏{ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ‏} (1)‏ ‏ ‏.‏


فقد جمله الله باسمين من أسمائه ليدلَّ الخلق على دليل ‏عطائه، وكيف لا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله ‏وسلم يرحم المنافقين، ويبكي أسفاً على ضياعه من ويرحم ‏الكافرين، ويدعو لهم بالهدى مع التوالي عليه بالإيذاء (2) ‏.‏


وقد سرت رحمته إلى الحيوان المذبوح؛ فكلَّفنا بأننا "نحدُّ ‏السكين، ونذبحه بعيداً عن أخواته، ونريحه حال الذبح، ولا ‏نريه السكين قبل الذبح!!!"‏ (3) ‏.


وسرت رحمته إلى من عليه جناية، أو يستحق القتل؛ بأننا ‏لا نمثِّل به، ولا نشوِّهه، ولا نحرقه بالنار.‏


‏ فالثعبان وهو عدوُّنا لا نحرقه بالنار، والمشرك الأسير لا ‏نمثِّل به ولا نشوِّهه (4) ‏.‏


فالقلب العامر بالرحمة صار بيتاً معموراً بأسرار "الرحيم".‏


قال الإمام ابو العزائم رضي الله عنه:‏




هي الأخلاق أسرار المعالي = تُفاضُ علىأولي الهِمَم العوالي
ترى الإنسان إنساناً عياناً = وتشهده بها نور المثالي

1
2هـي الأخـلاق أسـرار المعـالـي تُفاضُ علىأولي الهِمَم العوالي
تـرى الإنسـان إنسـانـاً iiعيـانـاً وتشـهـده بـهـا نــور iiالمثـالـي



فالإنسان المتخلِّق بأخلاق الله هو المثل الأعلى لسيِّده، ‏يتجلَّى له معنى:‏‎ { نورٌ على نور} ، فنور الرحمة في قلبه أشرقه ‏عليه نور"الرحيم" في قربه، فرفعه فوق الملائكة قدرا، وأحيا له ‏بين العالمين ذكرا.‏" اهـ


اقتباس:========================== الحاشية =====================


(1) ‏: سورة التوبة – الآية 128.‏

(2) ‎ ‎‏: إذا كان هذا خلقه مع أهل الكفر والنفاق فما بالك بالمسلمين الموحدين؟!. ألا ‏فليسمع أولئك الذين ما تركوا عبداً من عباد الله المسلمين إلا وأعطوه شهادة الشرك ‏والتضليل والتبديع والتكفير لأدنى شبهة، أو أقل خطأ غير مقصود، وذلك دون خوف ‏ولا وجل ولا حياء من الله تعالى، بل وجراءة ووقاحة ولؤم ما عرفنا بعضه منهم على ‏أهل الفسق والمعصية والزندقة، شيئاً من الحياء يا عباد الله، وبعضاً من العدل ‏والانصاف، والخوف من رب العزة والجلال، ومقام سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله ‏وسلم، وحفظاً لحرمة الأولياء وعباد الله من العباد والزهاد يا أيها العقلاء، العلماء، ‏الـ...... ‏

(3) ‎ ‎‏: كما جاء في الحديث النبوي الشريف عَنْ شَدّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ ‏رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "إنّ اللّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ. فَإذَا ‏قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ. وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذّبْحَ. وَلْيُحِدّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ. فَلْيُرِحْ ‏ذَبِيحَتَهُ". قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: أما القتلة فبكسر القاف وهي ‏الهيئة والحالة. قال: ويستحب أن لا يحد السكين بحضرة الذبيحة، وأن لا يذبح واحدة ‏بحضرة أخرى، ولا يجرها إلى مذبحها، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فأحسنوا القتلة) ‏عام في كل قتيل من الذبائح والقتل قصاصاً وفي حد ونحو ذلك، وهذا الحديث من ‏الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام والله أعلم.‏

(4) ‎ ‎‏: روى الإمام مسلم في صحيحه : ( الحديث رقم 1731) عن سليمان ابن بريدة، عن ‏أبيه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أمر أمير على جيش أو سرية، ‏أوصاه خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا. ثم قال (اغزوا باسم الله. وفي ‏سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا ‏وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال). فأيتهن ‏ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم ‏وكف عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين. وأخبرهم أنهم، إن ‏فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها، ‏فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين. يجري عليهم حكم الله الذي يجري على ‏المؤمنين. ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء. إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن ‏هم أبوا فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن هم أبوا فاستعن ‏بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه. فلا ‏تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه. ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك. فإنكم، أن ‏تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم، أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا ‏حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله. ‏ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا).‏ " اهـ 4/236


(يتبع إن شاء الله تعالى.... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:13 PM

"وقد أكرم الله الأمة المحمدية فانبعث لها من مشكاة خير ‏البرية ضياء الرحمة للعالمين. قال تعالى:‏‎ { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ‏وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُم } (1)‏ ‏ ‏.‏


فمنحهم الله الرحمة في قلوبهم، فتواضعوا لإخوانهم، ‏وآثروهم على أنفسهم، وشهدوا في إخوانهم الكمال، وفي ‏أنفسهم النقص... .‏


روي أن رجلاً من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين ‏‏- أهديت له رأس شاة مشوية، فقال: إن أخي فلان في ‏حاجة إليها، وأنا أقدِّمه على نفسي لأنه أحوج مني ، ‏فأرسلها لأخيه . فلما وصلت إليه قال: إن جاري فلانٌ في حاجة شديدة ‏أكثر مني؛ فأهداها إليه. ‏فقال الآخر: هكذا.... وما زالت تنتقل من رجلِ لآخر ‏إلى سبعة أشخاص حتى عادت إلى الأول الذي بذلها، وقد ‏تبين أنه أحقُّ بها!!!" (2) ‏ ‏.


فانظر إلى مقدار رحمة الأخ بأخيه، كيف يقدم له أعزَّ ما ‏لديه، وهو فرحٌ مسرورٌ لأنه يعلم أنه لا ينال البرَّ حتى ينفق ‏مما يحب (3) ‏.‏


وأعجب من ذلك: أن الصحابة كانوا في غزوة، فوقع فيها ‏قتلى وجرحى، فقام رجالٌ منهم ليدفنوا الموتى، ويسعفوا ‏الجرحى ؛ فوجدوا بين القتلى رجلاً جريحاً في آخر حياته، ‏يجود بروحه، يحتاج إلى شربة ماء يدفع بها ألم التوجُّع، ‏فأعطوه قليلاً من الماء، فسمع أخاً بجواره يقول: اسقوني . ‏فقال: أسعفوا أخي فهو خير مني!. فذهبوا ليسقوه، فسمع ‏أنيناً لآخر يقول: اسقوني!. فقال: أسعفوا أخي وارحموه فأنا ‏أصبر عنه، فلما أسعفوا الأخير عادوا إلى الأول فوجدوه قد ‏مات، ولحق به الثاني!!" (4)

‏ ‏.‏
فانظر إلى مقدار شعورهم بالرحمة في آخر رمق الحياة، ‏وقت خروج الروح،وإيثارهم لإخوانهم على أنفسهم.‏" اهـ 4/241


اقتباس:====================== الحاشية ====================

(1) ‎ ‎‏: سورة الفتح – الآية 29.‏

(2)‎ ‎‏: أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي ‏الله عنه قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة ‏فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليهم، فلم يزل يبعث به ‏واحدا إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت ‏{ويؤثرون ‏على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة‏} ‏.‏

(3) ‎ ‎‏: عملاً بقوله تعالى:‏‎ {‏لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ ‏اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }‏. ‏‏ سورة آل عمران - الآية 92‏‏.‏

(4) ‎ ‎‏: ومن أفضل صور الجود بالنفس جود الصحابة بأنفسهم في حماية رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم، ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ‏وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم. فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا ‏رسول الله! لا يصيبونك! نحري دون نحرك ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏فشلت. ‏

‏ ومن ذلك ما قاله حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي - ومعي ‏شيء من الماء - وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، ‏فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه! آه! فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه، ‏فاذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه! آه! ‏فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد ‏مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه ‏اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الري، ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع ‏جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام؛ فلما رفع فإذا الطعام ‏بحاله لم يأكل منه أحد شيئا؛ إيثارا لصاحبه على نفسه. " اهـ ‏


(يتبع إن شاء الله تعالى.... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:13 PM

" وقد روي أن بعض العارفين كان يقول في دعائه:" إلهي!! ‏إن كنتَ قدَّرتَ عليَّ دخول النار فاجعل جسمي كبيراً حتى ‏يملأ فراغ جهنَّم، وأكون فداءً للأمة الإسلامية".‏ وهذا منتهى الرحمة بالأمة.‏


وقد روي أن بعض العارفين كان يأخذ تلاميذه ويذهب ‏إلى المقابر ويبحث عن قبور الظالمين ، ويدعو لهم بالرحمة، ‏ويقول: "هؤلاء هم المستحقون للإحسان، الذين نسيَهم ‏الناس، ودعَوا عليهم لسوء فعلهم".‏


وقد روي في الحديث الصحيح (1)‏ ‏: أن امرأة بغيّاً رأت ‏كلباً على رأس بئر يلهث من العطش، فاخذتها الرحمة عليهن ‏ونزعت خفها، وربطته في خمارها،وملأته ماء، وسقت به ‏الكلب، فعطف عليها العطوف، ورحمها "الرحيم" ، وتاب ‏عليها "التواب" ، وفتح لها الباب بسبب رحمتها للكلب. ‏


وقد روي في حديث آخر : أن الله تعالى أدخل امرأة النار ‏في هرَّةٍ حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي أطلقتها تطلب ‏رزقها حتى ماتت الهرة، فاستحقت المرأة النار لقساوة قلبها ، ‏وعدم خوفها من حساب ربها... ‏(2) ‏.‏


فكن رحيماً بالحيوانات التي عندك، فلا تحمِّلها ما لا ‏تطيق، ولا تجوِّعها، ولا تعطِّشها، فتُسأل، وكن رحيماً ‏بالخُدَّام ، والعمال فلا تحقرهم، ولا تُهن كرامتهم، ولا ‏تحمِّلهم ما لا يطيقون، وعامل أهلك بالرحمة، وخاطب الناس ‏على قدر عقولهم، واحذر من التشديد في الوعظ فإنه يكسر ‏القلب، ولكن أخبرهم بوسعة الرحمة.‏


ومن الرحمة أن تتعهَّد أموات المسلمين بالزيارة والدعاء ‏والاستغفار ‏(3) ، فإن الميت مثل الغريق، ينتظر دعوة تنشله.‏


وخير الرحمات أن ترحم نفسك بأن تجعلها دائماً في ظل ‏الشرع، مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن لا ‏خير له في نفسه لا خير له في غيره.‏


وقد ورد في الأثر:" علامة السعادة أربعة أشياء: حلاوة في ‏اللسان، وبشاشة في الوجه، وكرم في اليدين، ورحمة في ‏القلب".


أسأل الله تعالى أن يحقِّقنا بتلك المعاني، ويذيقنا حلاوة ‏الفضل الصمداني.‏


الدعــــاء:‏


‏" إلهي ... رحمتك بالعوالم دلَّتنا على وسعة الحنان، ‏فاطمأنت قلوبنا بأنك الرحيم بجميع الأكوان، وأنت تحبُّ ‏الرحمة لأنها صفتك، ونحن المستحقون لها لأن عيوبنا كثيرة؛ ‏فانشر علينا رحمتك، لتكون عيوننا بك قريرة، وأوصل ‏أرواحنا بحبيبك الرؤوف الرحيم، ولنستمد من أخلاقه فنكون ‏منه على الصراط المستقيم. وأن تثبِّت في قلوبنا خُلُقَ الرحمة، ‏فإنه أكبر نعمة.‏

وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ‏تسليما".‏ ‏" اهـ 4/ 246


اقتباس:===================== الحاشية ==================

(1) ‎ ‎‏: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما - واللفظ لمسلم - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النّبِيّ ‏صلى الله عليه وسلم "أَنّ امْرَأَةً بَغِيّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ. قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ ‏مِنَ الْعَطَشِ. فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا. فَغُفِرَ لَهَا". وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ‏صلى الله عليه وسلم "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيّةٍ قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إذْ رَأَتْهُ بَغِيّن مِنْ ‏بَغَايَا بَنِي إسْرَائِيلَ. فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ، فَسَقَتْهُ إيّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ".‏

(2) ‎ ‎‏: روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن - واللفظ هنا لمسلم -: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ ‏رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النّارَ فِي هِرّةٍ رَبَطَتْهَا. فَلاَ هِيَ ‏أَطْعَمَتْهَا. وَلاَ هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ. حَتّىَ مَاتَتْ هَزْلاً".‏

(3)‎ ‎‏: ومن ذلك أيضاً قراءة القرآن الكريم على روح الميت فقد أجمع العلماء المعتبرون على ‏جواز ذلك ولا عبرة ولا عبرة ولا عبرة بمن شذَّ وأبى إلا أن يحرم الأموات من الخير ‏كما حرم الأحياء من خير كثير بتبديع وتضليل وإطلاق شهادت الكفر والتشريك ‏على من هب ودب من عباد الله دون خوف من الله ولا خشية منه ، ولا حياء من ‏سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكل ذلك بحجة اتباع السلف، والسلف ‏برىء منه ومن أمثاله.‏

‏ قال في مغني المحتاج في شرح المنهاج 3/70 وما بعدها: حكى القرطبي في التذكرة أنه ‏رؤي في المنام بعد وفاته فسئل عن ذلك فقال كنت أقول ذلك في الدنيا والآن بان لي ‏أن ثواب القراءة يصل إلى الميت. وحكى المصنف في شرح مسلم والأذكار وجها أن ‏ثواب القراءة يصل إلى الميت كمذهب الأئمة الثلاثة واختاره جماعة من الأصحاب ‏منهم ابن الصلاح والمحب الطبري وابن أبي الدم وصاحب الذخائر وابن أبي عصرون ‏وعليه عمل الناس وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. وقال السبكي: ‏والذي دل عليه الخبر بالاستنباط أن بعض القرآن إذا قصد به نفع الميت وتخفيف ما ‏هو فيه نفعه إذ ثبت أن الفاتحة لما قصد بها القارىء نفع الملدوغ نفعته وأقره النبي صلى ‏ الله عليه وسلم بقوله وما يدريك أنها رقية وإذا نفعت الحي بالقصد كان نفع ‏الميت بها أولى اهـ "‏

‏ وقد جوز القاضي حسين الاستئجار على قراءة القرآن عند الميت وقال ابن الصلاح: ‏وينبغي أن يقول: اللهم أوصل ثواب ما قرأنا لفلان فيجعله دعاءه ولا يختلف في ذلك ‏القريب والبعيد. وينبغي الجزم بنفع هذا لأنه إذا نفع الدعاء وجاز بما ليس للداعي ‏فلأن يجوز بماله أولى وهذا لا يختص بالقراءة بل يجري في سائر الأعمال.‏

‏ وكان الشيخ برهان الدين الفزاري ينكر قولهم اللهم أوصل ثواب ما تلوته إلى فلان ‏خاصة وإلى المسلمين عامة. لأن ما اختص بشخص لا يتصور التعميم فيه كما لو قال ‏خصصتك بهذه الدراهم لا يصح أن يقول وهي عامة للمسلمين قال الزركشي: ‏والظاهر خلاف ما قاله فإن الثواب قد يتفاوت فأعلاه ما خص زيدا وأدناه ما كان ‏عاما والله تعالى يتصرف فيما يعطيه من الثواب بما يشاء. وقد أشار الروياني في أول ‏الحلية إلى هذا فقال صلاة الله تعالى على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة وعلى ‏النبيين عامة اهـ ". وأما ثواب القراءة إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏فمنع الشيخ تاج الدين الفزاري منه وعلله بأنه لا يتجرأ على الجناب الرفيع إلا بما أذن ‏فيه ولم يؤذن إلا في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة قال الزركشي ‏ولهذا اختلفوا في جواز الدعاء له بالرحمة وإن كانت بمعنى الصلاة لما في الصلاة من ‏معنى التعظيم بخلاف الرحمة المجردة. وجوزه بعضهم واختاره السبكي واحتج بأن ابن ‏ عمر رضي الله تعالى عنهما كان يعتمر عن النبي صلى الله عليه وسلم عمرا بعد ‏موته من غير وصية.‏

‏ وحكى الغزالي في الإحياء: عن علي بن الموفق وكان من طبقة الجنيد أنه حج عن النبي ‏صلى الله عليه وسلم حججا وعدها الفقاعي ستين حجة. وعن محمد بن إسحاق ‏السراج النيسابوري أنه ختم عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة آلاف ‏ختمة وضحى عنه مثل ذلك اهـ ". ولكن هؤلاء أئمة مجتهدون فإن مذهب الشافعي ‏أن التضحية عن الغير بغير إذنه لا تجوز كما صرح به المصنف في باب الأضحية ‏وعبارته هناك ولا تضحية عن الغير بغير إذنه ولا عن الميت إذا لم يوص بها. " اهـ ‏




(يتبع إن شاء الله تعالى مع: الْمَلِكُ جَلَّ جَلالُه ... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:14 PM

الْمَلِكُ جَلَّ جَلالُه


"هو الظَّاهر بعزِّ سلطانه، الغنيُّ بذاته، المتصرِّف بصفاته في ‏أكوانه (1) ‏.‏


ملك الأرواح وبيده زمامها، وقهر الأشباح فأحوجها ‏إليهن الكل إليه فقراء، وهو الملك يفعل ما يشاء. من ادَّعى ‏الملك معه حاربه، ومن عرف أنه لا ملك له مع سيده خصَّه ‏بنعمته ‏(2) .


امتحن الله العباد فأعطاهم الدار والعقار فاغترُّوا بهذه ‏النسبة ، وغفلوا عن سرِّ القضية، فإن العبد وماملكت يداه ‏لسيده. ‏


أنت في المملكة الإلهية ضيف فلا تحكم على صاحب ‏الدار؛ فما لك معه تصريف، وتأمَّل في عظمة الملك القادر ‏الحكيم، كيف نظَّم ملكه، وأوقف كل كائن عند رتبته.‏


وانظر إلى البحار وما فيها من العوالم، والهواء وما فيه من ‏الطيور والجراثيم، والأرض وما في طواياها من الخلائق ‏والحشرات، كيف خضع الكلُّ لعزَّة سلطانه، ويتنعم الكلُّ في ‏فضل حنانه.‏


وانظر إلى فرعون كيف غرَّته ذرة من الملك فادَّعى أنه ‏‏"ملك"!، قال تعالى:‏‎ {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ ‏أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْر}‏ (3)‏ ‏.‏


وانظر لسيدنا موسى، العبد الفقير إلى سيِّده الذي كان ‏يرعى الغنم لسيدنا شعيب، كيف كانت عاقبة الأمر.‏


وانظر إلى الفرق بين أهل الصبر وأهل الكفر، فقد أغرق ‏الله فرعون وجنوده لأنه - سبحانه وتعالى - غيور، ومكَّن ‏لسيدنا موسى في الأرض لأنه - سبحانه وتعالى - " شكور".‏


وانظر إلى قارون لمَّا غرَّه مظهر الملك، ونسي أن ما عنده ‏وديعة؛ فقال:‏‎ {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ‏}‏ (4)‏ ‏.


فخسف الله به الأرض وجعله عبرة؛ فما أخذهم"الملك" ‏إلا لسوء أدبهم معه، وهو غيور، وإن كانت حضرة الحلم ‏تبدي شئونها، ولكن لا بدَّ من الأخذة التي تكشف الحقيقة.‏


وقد روي في الحديث القدسي: ( أنا ملك الملوك وقلوب ‏الملوك بيدي، فإن أطاعوني عبادي حوَّلت قلوبهم بالرحمة، ‏وإن عصوني عبادي حوَّلت قلوبهم عليهم بالنقمة)‏ (5) ‏.‏

اقتباس:==================== الحاشية ===================

(1) ‎ ‎‏: قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله : إن الملك هو الذي يستغني في ذاته وصفاته ‏عن كل موجود ، ويحتاج إليه كل موجود ، بل لا يستغني عنه شيء ، لا في ذاته ، ولا ‏في صفاته ، ولا في وجوده ، ولا في إبقائه ، بل كل شيء فوجوده منه ، أو مما هو منه ‏، وكل شيء سواه فهو مملوك له في ذاته وصفاته ، وهو مستغن عن كل شيء ، فهذا ‏هو الملك المطلق . والملك الحقيقي لا يكون إلا لله وحده ، فلا مالك في الحقيقة إلا الله ‏، وفي غيره مجاز ، واليقين بأن الله مالك كل شيء هو الذي يعلم الإنسان كيف يفزع ‏إلى ربه ملك الملوك في كل حال وفي كل أمر. قال بعض الأمراء لبعض الصالحين: ‏سلني حاجتك ؟ فقال له: كيف تقول لي هذا ولي عبدان أنت عبدهما ؟ قال الأمير: ‏ومن هما ؟. قال الرجل الصالح : الشهوة والغضب! غلبتهما وغلباك، وملكتهما ‏ملكاك!.‏

فمن عرف هذه الأحوال تخلص من مساكنة الأشباح، وانفرد بمالك النفوس ‏والأرواح ، وقطع رجاءه عن الخلائق، وسلم عن الآفات والعلائق، ولهذا المعنى قال ‏بعض المشايخ : أيجمل بالحر المريد أن يتذلل للعبيد وهو يجد من مولاه ما يريد!! .‏

(2) ‎ ‎‏: وقال الإمام القشيري رحمه الله: أن من عرف أن الله تعالى متفرد بالملك أبى أن يذل ‏لمخلوق، لأن معرفته بحقيقة ملكه توجب التجرد له في التقرب إليه، جاء عن بشر ‏الحافي رضي الله عنه: رأيت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه في المنام، فقلت له: عظني ‏يا أمير المؤمنين.فقال: ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء طلباً لثواب الله تعالى، ‏وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بالله جل جلاله. فقال بشر: زدني يا أمير ‏المؤمنين:قال ‏الإمام :‏



قد كنت ميتاً فصرت حياً = وعن قريب تصير ميتا
عزَّ بدار الفـــناء بيت = فابـن بدار البقاء بيتا

1
2قد كنت ميتاً فصرت حياً وعن قريب تصير iiميتـا
عـزَّ بـدار الفنـاء iiبـيـت فابـن بـدار البقـاء بيـتـا


(3) ‎ ‎‏: سورة الزخرف - الآية 51.‏

(4) ‎ ‎‏: سورة القصص - الآية 78.‏

(5) ‏: عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله يقول: أنا الله لا إله ‏إلا أنا مالك الملوك وملك الملوك قلوب الملوك بيدي،وإن العباد إذا أطاعوني حولت ‏قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد إذا عصوني حولت قلوبهم عليهم ‏بالسخط والنقمة فساموهم سوء العذاب،فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك ‏ولكن اشغلوا أنفسكم بالذكر والتضرع،أكفكم ملوككم". رواه الطبراني في ‏الأوسط وفيه وهب بن راشد وهو متروك.‏ انظر: ‏مجمع الزوائد. للحافظ الهيثمي ‏‏5/23 كتاب الخلافة. (بابان في النهي عن سب السلطان). باب قلوب الملوك بيد الله ‏تعالى فلا تسبوهم. " اهـ 4/250‏



(يتبع إن شاء الله تعالى ..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:14 PM

فلا تدعوا على الملك ولكن ارجعوا إلى السنة المحمدية ‏وتوبوا إلى الله.‏


والنقطة الجوهرية التي يحارب فيها العباد سيدهم هي نقطة ‏الملك؛ ولذلك إذا نفخ في الصور وانطوى الخلائق في القبور، ‏ينادي الحقُّ سبحانه وتعالى:‏‎ { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ }؟ فيجيب ‏نفسه بنفسه:‏‎{ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ‏ (1)‏ ‏.‏


وإن العارف بالله تعالى يسمع بآذان روحه هذا النداء ‏فيسلم كل ما يملك الآن لله، وعند ذلك يسمعه الحق ‏‏"الملك":‏‎ { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}‏... .‏


وإن كل منازع في الملك فهو مخذول مغرور، فما خلقنا ‏لننازع"الملك" في ملكه، وإنما خلقنا لنعرف كرمه ولطفه ‏ووداده وحنانه.‏


وإن "الملك" معناه : ظهور كلمة "كن" التي ينفعل لسرها ‏الوجود، وما من شخص إلا وأمدَّه الله من سرِّ كلمة"كن" ‏بقدر ما قسم له؛ فالروح التي فيك من سرِّها، ، والسمع ‏والبصر من باهر أمرها، والسكون والحركة من عين إمدادها، ‏وتسخير الأكوان من وسعة فيضها، فسواء صرفك في نفسك ‏وفي الآفاق فاعتبره من الخلاَّق، فارجع إليه الأمانة بانشراح ، ‏فهو الملك المنعم الفتَّاح... .‏


واعلم أن سرَّ وصول الأولياء أنهم شهدوا أن أرواحهم ‏وأشباحهم وأموالهم وأولادهم مملوكة لله ليس لهم في أنفسهم ‏أو في الآفاق فتيلاً ولا نقيرا، وعند ذلك يظهر لهم تجلي ‏‏"الملك" وهم العبيد فيمنحهم وافر المزيد (2) ‏. ‏


روي أن بعض العارفين وقف بين يدي الحق في مشهد ‏روحاني، فقال له الحقُّ: ما هو برهانك على حبك لي؟.‏
فقال: يا سيدي! ها هي روحي أقدِّمها للجناب برضاء ‏وانشراح.‏
فقال له الحق: إن روحك مني، وما زالت في ملكي، فهات ‏من عندك شيء!.‏
فقال : يا سيدي! لا أملك شيئاً، لأنك أنت الملك المطلق.‏
فقال له: الآن تستحقُّ تجلِّي "الملك" فهو الذي منح الحب، ‏وملك القلب، وهو الذي وفَّق وهدى، وإليه المرجع ‏والمصير... .‏


فإذا قدَّمت له عبادة فاحذر أن تعتقد أنك تملكها، فهو ‏يملكك ويملكها، وبيده القبول والرد، وعنوان القبول: أن ‏تقول له: إنها منك، وإليك، وأنت الغني عني، وعنها (3)‏.‏" اهـ.4/256


اقتباس:===================== الحاشية =====================

(1) ‎ ‎‏: سورة غافر – الآية 16.‏


(2) ‎ ‎‏: وما ذلك إلا لأنهم تخلَّقوا بأخلاق "الملك" الذي من جملة أخلاقه : أن يملك نفسه ‏وهواه ، وذلك بأن يتحرر من رقِّ الطمع ويتحلى بحلية الورع، وبأن يكون أيضاً مالكاً ‏للأحوال، غنياً بالله الكبير المتعال. قال بعضهم : من عرف أنه الملك الحق الذي تنتهي ‏إليه الآمال، جعل همته وقفاً عليه فلم يتوجه في أموره إلا إليه، استسلاماً لحكمه، ‏واستغناء به عن غيره، ومن عرف أنه سبحانه المتوحد بالملك، أنف أن يتذلل لمخلوق، ‏لأن المعرفة بمالكه يوجب التجرد والانحياش إليه ، والتعزز به عما سواه، والاكتفاء بما ‏في ملكه وسلطانه.‏


(3) ‎ ‎‏: وهذا هو حال الكمَّل من العارفين المحقِّقين وعباد الله الصالحين الذين تحلَّوا بأوصاف ‏العبودية المحضة، فإنهم لا يرون أنفسهم شيئاً، ولا لهم من الأعمال شيء، كما قال ‏سيدي ابن عطاء في حكمه الجليلة العجيبة: "إذا أراد أن يظهر فضله عليك ، خلق ‏ونسب إليك" . قال سيدي ابن عجيبة في شرحه لهذه الحكمة:" أي إذا أراد الله ‏سبحانه أن يظهر فضله وإحسانه عليك _ أيها المريد _ خلق العمل الصالح فيك ونسبه ‏إليك على ألسنة العبيد؛ بأن يطلق ألسنتهم بأنك مطيع . فينبغي لك أن تشهد هذا ‏الفضل العظيم ، وتستحي من مولاك الكريم ، لتتأدب بقول سهل بن عبد الله رضي ‏الله عنه : إذا عمل العبد حسنة وقال: يا رب أنت بفضلك استعملت، وأنت أعنت، ‏وأنت سهلت. شكر الله تعالى له ذلك، وقال له: يا عبدي بل أنت أطعت، وأنت ‏تقربت، وإذا نظر إلى نفسه وقال: أنا عملت، وأنا أطعت، وأنا تقربت. أعرض الله ‏تعالى عنه، وقال: يا عبدي، أنا وفقت، وأنا أعنت، وأنا سهلت. وإذا عمل سيئة وقال: ‏يا رب، أنت قدرت، وأنت قضيت، وأنت حكمت. غضب المولى عليه، وقال له: يا ‏عبدي بل أنت أسأت وأنت جهلت، وأنت عصيت. وإذا قال: يا رب، أنا ظلمت، ‏وأنا أسأت، وأنا جهلت. أقبل المولى عليه، وقال: يا عبدي ، أنا قضيت، وأنا ‏قدرت، وقد غفرت وحلمت وسترت.‏" اهـ


(يتبع إن شاء الله تعالى..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:15 PM

"قال تعالى:‏‎ { لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } (1)‏ ‏ ‏.‏


فمن ادَّعى الملك فليبرز حجَّته بذلك!. قال تعالى:‏‎ { أَمْ ‏لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } (2) ‏.‏


ويكفينا أن الله أذلَّ النمروذ ببعوضة ، وقد أعطى الله الملك ‏لسيدنا سليمان، وصرَّفه في كل رتبة كونية، ولكنه وهو ‏معصوم:‏‎ { قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ ‏أَكْفُرُ} (3) ‏. ‏


فكأنَّ الملك والتصريف فيه بلاء من الله تعالى ليمتحن ‏العقائد والنفوس، وقد سلب الله الملك من سيدنا سليمان حتى ‏لا يغترَّ الناس بأنه متصرِّف، وغَيرةً على مكانة الحضرة، حتى ‏أرجعه لرتبة العبد.‏


فمتى تحقَّقت بالعبدية صرفك في الملك ، بل تترقَّى إلى أن ‏يصرِّفك في الملكوت. ‏


فالعبد الحقيقي للملك العلي يقول له "الملك": يا عبدي! ‏أنا الغني عن الملُك، وقد صرَّفتك فيه بأمري، وعند ذلك ‏يأنس العبد بالملك الجليل، ويتضح له السبيل.‏


ومن أراد أن يتخلَّق بسرِّ هذا الاسم: فليكن عادلاً بين ‏قواه الظاهرة والباطنة، فلا يترك نفسه تطغى على روحه، ولا ‏يترك شهوته تـثور على عقله، ولا يجعل حسَّه يحجب ‏لطائف قلبه. فإن الجسم الإنساني مملكة عظيمة تدبِّرها الروح، ‏وهي نور من الله، فهي قريبة من حضرته، والقلب لها مثل ‏العرش تتنـزل أمورها عليه، ثم يسري إلى لوح الخيال، ‏ويقوى العزم فتنفذ الجوارح وهم جنود المملكة، فإذا عرفت ‏هذا المثال تجلَّى لك الملك المتعال:‏




الملك لله ، والأكوان خُدَّامُ =عبيده، وهو للأشياء علاَّمُ
كل الملوك وكلُّ الأغنيا صورٌ = في طيِّ قبضته، واللهُ قوَّامُ
أقامهم في مقام الامتحان وهم = لم يفقهوا سرَّه ، والكلُّ نُوَّامُ

1
2
3الـمـلــك لــلــه ، والأكـــوان iiخُـــدَّامُ عـبـيــده، وهــو لـلأشــيــاء iiعـــلاَّمُ
كـل الـمـلـوك وكـلُّ الأغـنـيـا iiصــورٌ فــي طـــيِّ قـبـضــتــه، واللهُ iiقـــوَّامُ
أقـامـهـم فـي مـقـام الامـتـحـان وهـم لـم يـفـقـهـوا سـرَّه ، والـكــلُّ iiنُــوَّامُ



وروي أن بعض الملوك مرَّ على رجلٍ من العارفين، فلم ‏يعبأ به، فقال له: أتعرف من أنا؟. ‏
فقال له: أعرفك، أنت عبد عبدي.‏
قال: وكيف ذلك؟.‏
قال: أنت عبدٌ لطمعك، وأنا ملكت طمعي، فأنت عبدٌ ‏لعبدي!.‏


فالذي ملَّكه الله ناصية نفسه، فذلَّلها لله، وملك حظَّه ‏وهواه،فقد تجلَّى له الملك الحق المبين.‏" اهـ 4/260

==================== الحاشية ====================

(1) ‎ ‎‏: سورة الشورى - الآية 49.‏
(2) ‎ ‎‏: سورة النساء - الآية 53.‏
(3) ‎ ‎‏: سورة النمل - الآية 40.‏" اهـ



(يتبع إن شاء الله تعالى.... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:15 PM

"وقد روي أن الخليفة المأمون عند وفاته قال: دعوني أمرِّغ وجهي ‏على الأرض، ذُلاًّ لملك الملوك عساه يعطف على عبده المملوك!.‏ وقال: " يا من لا يزول ملكه! ارحم من زال ملكه!".‏


وقد ورد في الأثر: أن الملك العادل ظل الله في الأرض ‏يأوي إليه كل محتاج (1) ‏.‏


فمن رأى الملك العادل، تجلَّى له الملك الكبير، الذي هو على ‏كل شيء قدير.‏


وليس الملك في وسعة الدار والأملاك، ونفاذ الكلمة ، ولكن ‏الملك في أن تملك نفسك وهواك ، وتوقف جوارحك في حدود ‏الشريعة...

.‏
وقد قال بعض الملوك لرجل من الصالحين: ادعُ الله لي!.‏


فقال: أسأل الله أن يسهِّل لك رغيفاً تأكله، ويهوِّن عليك ‏خروج الفضلات، ويدفع عنك مضارَّ العفونات.‏


فقال له الملك: ادعُ الله دعوةً أعظم من هذه، فإن ذلك ‏ميسَّرٌ لجميع الناس.‏


فقال له: من أعطاه الله القوت، وسلَّمه من الأمراض، فهو ‏في أكبر النعم، ولكن أيها الملك ! إن لم تكن معترفاً بقدر ‏هذه الدعوة، فإن الله سيريك آية تجعلك تعترف بشكر ‏المنعم!.‏


فلمَّا تناول الطعام والشراب انحبس فيه البول والغائط، ‏فشعر الملك بألمٍ شديد، فاستحضر الأطباء وأسعفوه بكل ‏وسائل العلاج، فلم يفده، فقال: أحضروا لي الرجل الصالح ‏الذي وعظني . فأحضروه. فقال: ادعُ الله أن يفرِّج عني ما ‏نزل بي، فقد أشرفت على الهلاك.‏


فقال له: أيها الملك! إذا كنتَ عاجزاً عن دفع الضرِّ عن ‏نفسك، وجلبِ الخير لها، كيف تدفع عن غيرك، أو تجلب ‏الخير لها؟. إن الدَّافع النافع هو الله، يستوي عنده الملك ‏والمملوك. ‏


فقال الرجل: " اللهمَّ فرِّج عنه ليكون آيةً دالَّةً على ‏قدرتك" ؛ ففرَّج الله وشفاه.‏



الدُّعـــــــاءُ


‏" إلهي يا ملك العوالم، يا صاحب العزِّ الدائم، ذلَّت لعظمتك ‏رقاب الجبابرة، وارتعدت لهيبتك أرواح الكروبيين (2) ، تجلَّ لنا ‏بسرِّ اسمك الملك، وأمدَّنا بلطائفه حتى نملك نفوسنا، ونعدل في ‏جوارحنا، ونتصرَّف بأمرك في كل الشئون، يا من أمره إذا أراد ‏شيئاً قال: كن؛ فيكون.‏ وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ‏وسلم".‏

اقتباس:========================= الحاشية ======================

(1) ‎ ‎‏: قال العلامة المناوي في فيض القدير الجزء الرابع الحديث رقم:4820 - (السلطان ‏ظل الرحمن في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده فإن عدل كان له الأجر ‏وعلى الرعية الشكر وإن جار وحاف وظلم كان عليه الإصر وعلى الرعية الصبر) ‏قال ابن عربي: من أسرار العالم أنه ما من شيء يحدث إلا وله ظل يسجد للّه ليقوم ‏بعبادة ربه على كل حال سواء كان ذلك الأمر الحادث مطيعاً أو عاصياً فإن كان من ‏أهل الموافقة كان هو وظله سواء وإن كان مخالفاً أناب ظله منابه في طاعة اللّه {وللّه ‏يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والأصال}‏ والسلطان ‏ظل اللّه في الأرض إذ كان ظهوره بجميع صور الأسماء الإلهية التي لها أثر في عالم الدنيا ‏والعرش ظل اللّه في الأرض في الآخرة فالظلالات أبداً تابعة للصور المنبعثة عنها ‏حساً ومعنى فالحسي قاصر لا يقوى قوى الظل المعنوي للصورة المعنوية لأنه يستدعي ‏نوراً مقيماً لما في الحس من التقييد والضيق ولهذا نبهنا على الظلّ المعنوي بما جاء في ‏الشرع من أن السلطان ظل اللّه فقد بان أن بالظلالات عمرت الأماكن وقد تضمن ‏الحديث من وجوب طاعة الأئمة في غير معصية والإيواء إليهم وبيان ما على السلطان ‏من حياطة رعيته ولهذا قال يأوي إليه كل مظلوم ليمتنع بعز سلطانه من التظلم ويرفع ‏من ظلامته ببرد ظله

‏ " تنبيه": عدُّوا من أخلاق العارفين مخاطبة ظلمة السلاطين باللين بأن يشهد أحدهم أن ‏يد القدرة الإلهية هي الآخذة بناصية ذلك الظالم إلى ذلك الجور وأن الحاكم الظالم ‏كالمجبور على فعله من بعض الوجوه وكصاحب الفالج لا يستطيع تسكين ‏رعدته.والحديث ذكره في مسند الفردوس بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما.‏

(2) ‎ ‎‏: عن أَبي العالية، أَنه قال: الكَروبيُّون: سادَةُ الملائكةِ، منهم جبريلُ ومِـيكائيلُ ‏وإِسرافيل، هم الـمُقَرَّبُونَ؛ وأَنشد شَمِرٌ لأُمَيَّة: "كَرُوبِـيَّةٌ منهم رُكُوعٌ وسُجَّدُ". ‏ويقال لكل حيوانٍ وَثِـيقِ الـمَفاصِلِ: إِنه لَـمُكْرَبُ الخَلْقِ إِذا كان شَديدَ القُوى، ‏والأَول أَشبه؛ وقال في اللسان: والملائكة الكَرُوبِـيُّونَ: أَقْرَبُ الملائكة إِلى حَمَلَةِ ‏العَرْش. ‏ انظر: لسان العرب : مادة مادة كرب.‏"اهـ 4/266



(يتبع إن شاء الله تعالى مع: القُدُّوسُ جَلَّ جلالُه..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:15 PM

القُدُّوسُ جَلَّ جلالُه


"هو: المنـزَّه في قُدُس عزِّه عن كل ما تحيط به العقول، أو ‏يصوره الخيال، أو تحوم حوله الأفكار (1) ‏.‏


ومعنى تسبح الله وتنـزيهه، وتقديسه: كلها ترجع إلى ‏علوِّ جناب الحق، وكلُّ ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك (2) ‏.‏


واعلم أن الواجب عليك: أن تنـزِّهه على قدرك، أما ‏تنـزيه الحق فلا يعرفه إلا الحق.


قال الإمام أبو العزائم نفعنا الله به:" إن قوماً يعشقون ‏الدُّروس، وقوماً يهيمون بملاذ النفوس، وقوماً يفرُّون إلى ‏القدُّوس، ولا يدخل حضرة القُدُّوس أرباب النفوس".‏


وقد روي إن بعض العارفين أخذ في تسبيح الحضرة ‏وتنـزيهها، فسمع الوارد الإلهي في قلبه يقول له: أنا منـزَّه ‏عن تنـزيهك، لأن التنـزيه صفتي أزلاً وأبداً، ولا يمكنك ‏تنـزيه الحضرة على ما هي عليه، ولكن طهِّر نفسك من ‏نقصها حتى تدخل في الوادي المقدَّس فيتجلَّى لك "القُدُّوس".‏


وإذا أردت أن تنال الحظوة القدسية فامح من جوهر ‏نفسك الصفات الحيوانية، والرزائل الإبليسية، والقبائح ‏الشهوانية، واجعل قلبك نقياً صفيّاً متجهاً بكليتة إلى ‏القدوس، حتى تواجه بما لا عينٌ رأت ، ولا أذن سمعت، ولا ‏خطر على قلب بشر. وذلك بأن تتذكر حضرة الأرواح، ‏حيث كانت في مواجهة الفتاح، قبل قيود الأشباح، وعند ‏ذلك تشعر بأن كل علم أخذته بحدود الكون، ووصلت إليه ‏بفكرك وخيالك وظنك مع إثبات وجودك الباطل، كان ذلك ‏العلم انتقالاً من كون إلى كون، والعبرة بالعلم المأخوذ عن ‏المكوِّن تتلقَّاه روحٌ استنارت بنور "القُدُّوس" .‏

اقتباس:====================== الحاشية ===================

(1) ‎ ‎‏: قال حجة الإسلام الغزالي: ولست أقول منـزه عن العيوب والنقائص، فإن ذكر ‏ذلك يكاد يقرب من ترك الأدب، فليس من الأدب أن يقول القائل: ملك البلد ليس ‏بحائك ولا حجام، فإن نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود، وفي ذلك الإيهام نقص ‏‏. ‏‏ انظر: المقصد الأسنى 68.‏

(2) ‎ ‎‏: وأشار بعضهم إلى أن الأليق أن يقال: المنـزّه عن كل كمال لا يليق به، لأن العبارة ‏الأولى بعيدة من الأدب، كما لا يقال: الملك ليس بجزار.‏" اهـ 4/268


(يتبع إن شاء الله تعالى..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:16 PM

"ومتى ظلَّلتك أنوار "القُدُّوس" دخلت في القُدُس، وأنت ‏فرحٌ مأنوس، ولا تتحقَّق بحضرة القُدُّوس إلا إذا طَهَّرتَ ‏إرادتَك من الارتكان على الملاذِّ الحسّيَّة، وحبِّ الذات، ‏والأنانية. فكلُّ ذلك بمنـزلة الجنابة الحاجبة عن الدُّخول في ‏الحضرة، حتى تنحصر إرادتك في مطلوب واحدٍ هو الله ‏تعالى، لا ترى أجملَ منه فتطلبه، ولا أعزَّ منه فتركنَ إليه، ولا ‏ألطفَ منه فتحبَّه. وعند ذلك لو عرضت عليك جمالات ‏الملك والملكوت، والجنَّة وجميع مراتب الوجود لا تلتفت ‏إليها، وهنا يلذُّ الملام، ويحلو الهيام (1)


فإذا سمعت من الخلق أنك مجنون أو جاهل، أو لا تفهم، ‏زاد شوقك وإقبالك، وسجدت شكراً لله الذي أعطاك حقيقةً ‏حجب عنها أهل اللَّوم والغفلة (2) ‏.‏


وهنا سأتلو عليك ما حصل لسيدنا موسى الكليم على ‏نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم، لمناسبى حضرة"القُدُّوس":‏


‏" خرج السيد موسى مع زوجته من الشام إلى مصر، ‏وكانت زوجته حاملاً، فبينما هو سائر في الطريق ليلاً ، ‏وكان في زمن الشتاء، جاء زوجته المخاض، فبحث سيدنا ‏موسى عن قبس من النار، ليدفع عن زوجته شدَّة البرد فنظر ‏إلى الوادي فرأى بجانب جبل الطُّور ناراً، فسار إليها ليقتبس ‏منها، فلما أتاها وجدها أحاطت به، ونودي من الحضرة ‏العليَّة نداءً منزَّهاً عن الحدود والجهة، فكلَّمه قائلاً له: ‏{ إِنِّي ‏أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا ‏اخْتَرْتُكَ ‏}‏(3) ‏ ‏.


فلمَّا خلع نعليه وهما عند العارفين الدنيا والآخرة، أو الملك ‏والملكوت، أومقتضى الجسم والروح.‏
ولا يليق للإنسان أن يدخل تلك الحضرة وفيه بقية لغير الله ‏فهي بمنـزلة النعال الملوثة المبعدة عن الحضرة (4) ‏.‏


وإن الربَّ تعالى لما تجلَّى لحبيبه موسى وتنـزَّل له على ‏قدره حناناً وكرماً، فكان بمقتضى هذه المواجهة تقديس ‏الوادي بإشراق نور الرب الهادي.‏


ولما كانت حضرة الربوبية حضرة عواطف وتنـزُّل ‏ولطفٍ، فلذلك افتتحه بها، فلما خلع نعليه ودخل في الوادي ‏المقدَّس، استعدَّ لأن يواجه الحق بحضرة الألوهية وهي حضرة ‏العلو والكبرياء، والعزَّة، ليعرف الحضرتين، ويفوز بالكمالتين، ‏فقال: ‏{ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ ‏إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي }(5)‏ ‏ ‏.


وقد أراد الحق أن يؤانسه في تلك الحضرة لئلا يذوب من ‏الهيبة، فقال تعالى له:‏‎ {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ ‏عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ ‏أُخْرَى}‏ (6)‏ ‏.‏


ومراده بتطويل الأوصاف تطويل مؤانسته بالحبيب، قال له ‏الحق:‏‎ { ألقها }، ومعنى ذلك: أن من ألقى عصاه تسليماً لله، ‏منحه الله السرَّ الكبير. فألقاها ، فسرى فيها سرُّ الحياه، ‏وكانت آية رفعت شأن موسى، وأحيت ذكره.‏" اهـ


اقتباس:=================== الحاشية ==================

(1) ‎ ‎‏: وتكون عبد القدوس الذي قدَّسه الله عز وجل عن الاحتجاب، فلا يسع قلبه غير الله ‏، وهو الذي وسع قلبه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم رواية عن ربه عز وجل في ‏الحديث القدسي الجليل:" لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن" ‏ومن وسع الحق قدس عن الغير، إذ لا يبقى عند تجلِّي الحق شيء غيره، فلا يسع" ‏القدوس" إلا القلب المقدس عن الأكوان.

(2) ‎ ‎‏: لأنك عند هذا المقام تكون قد تحقَّقت بمقام الفناء في الله تعالى ، وقد ورد عن سيدي ‏ومولاي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: فيما رواه الإمام أحمد، وأبو ‏يعلى، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا: (أكثروا من ‏ذكر الله حتى يقولوا مجنون). وروى الطبراني والبيهقي مرسلا: (اذكروا الله ذكرا يقول ‏المنافقون إنكم مراءُون). وما ذلك إلا لأن الذاكر لله تعالى كثيراً داخلٌ في حضرة ‏القُدُّوس سبحانه، فيغيب عن الوجود وما فيه ويبقى لله وبالله وفي الله وعلى الله .‏

(3) ‎ ‎‏: سورة طه – الآية 13.‏

(4) ‎ ‎‏: ولما كان الحق تعالى من أسمائه القدوس، قدّس نفوس العابدين بحسن تأييده عن دنس ‏المخالفات، وطهَّر قلوب الزاهدين بحسن تسديده عن الرغبة في الدنيا، واستشعار ‏الشهوات، وطهّر أسرار العارفين بنور توحيده عن شهود ما سواه من سائر المكوَّنات. ‏‏ ويكون التعلق باسمه تعالى "القدوس": بطلب العصمة عن دنس المخالفات الظاهرة ‏والباطنة، وبطلب حفظ القلوب من الهفوات، والأسرار من الفترات وأن يطهر ‏جوارحه من لوث المعاصي والهفوات، ونفسه من متابعة الشهوات، وماله عن الحرام ‏والشبهات، وقلبه عن كدورة الغفلات، وروحه عن المضاجعات والمساكنات، وسرّه ‏عن الملاحظات والالتفاتات، فلا يتذلل لمخلوق بنفسه التي بها عبده، ولا يعظم مخلوقاً ‏من حيث إنه مخلوق، بالقلب الذي به شهده، ولا يبالي بما فقده بعد ما وجده، ولا ‏يرجع قبل الوصول إليه بعد ما قصده.‏

(5) ‎ ‎‏: سورة طه - الآيتان 13-14.‏
(6) ‎ ‎‏: سرة طه - الآيتان 17-18.‏ " اهـ 4/273



(يتبع إن شاء الله تعالى.... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:17 PM

"وفي الحقيقة أن سرَّ الوصول يتجلَّى لمن فهم قصص الأنبياء، ‏وتلقَّى أسرارهم عن الوارثين العارفين، ومتى وصلت إلى تطهير ‏نفسك من عيوبها الحاجبة انكشف لك سرُّ قوله تعالى:‏‎ { سَبَّحَ ‏لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } (1)‏ ‏ ‏.


وسرِّ قوله:‏‎ {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن ‏فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} (2)‏ ‏ ‏.‏


فما من شيء إلا وهو ينـزِّه جلال الله بلسان الحال والمقال، ‏ولا يعرف ذلك إلا من طهَّر نفسه عن حظِّها وهواها....‏ ‏ (3) .‏



الدُّعــــاءُ


‏" إلهي... أنت "القُدُّوس" المنـزَّه عن تنـزيه العباد؛ ‏فالأرواح عاجزة ، والعقول حائرة، والكلُّ في الكلِّ قاصر عن ‏إدراك الحقيقة. ‏{ وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } (4)‏ ‏ ‏. ‏


فنسألك أن تنفخ في هياكلنا روحاً قدسية حتى ندخل في ‏حضرة قدسك، وتعم بركاتك قوانا الظاهرة والباطنة، ‏فتطهِّرنا من النقائص والرذائل والعيوب، ونسمع النداء الإلهي ‏بطريق الوراثة الموسوية، "فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ" ‏حتى تبارك بظهورك نار عناصري، فيبارك من حولي في ‏الآفاق ، إنك أنت الواحد الخلاَّق. ‏


وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".‏" اهـ


اقتباس:==================== الحاشية =========================

(1) ‎ ‎‏: سورة الحديد - الآية 1.‏
(2) ‎ ‎‏: سورة الإسراء - الآية 44.‏
(3) ‎ ‎‏: وتحقق باسمه تعالى"القدوس" فتقدست روحه وسره عن غبش الحس، حتى سرى ‏ذلك التقديس في كلّيّة العبد وجزئياته، فتنخنس البشرية، ويظهر سر الروحانية، فيصير ‏هذا العبد من الروحانيين المقدسين، والله تعالى أعلم.‏
(4) ‎ ‎‏: سورة الأنعام – الاية 91.‏ " اهـ 4/276




(يتبع إن شاء الله تعالى مع: السَّلامُ جلَّ جَلاَلُه...... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:17 PM

السَّلامُ جلَّ جَلاَلُه



"هو من سلمت ذاته عن النقائص، وصفاته عن العيوب، ‏وأفعاله عن الشرور.‏


ولم يستحق هذا الوصف إلا الله، فإنه هو "السَّلامُ" ‏والمتفضِّل بالسَّلام، وإليه يعود كل سلام.‏


ولو فهمت أفعاله تعالى رأيت"السلام" يتجلَّى في طواياها، ‏وإن كان ظاهرها شراً عند من لم يقف على حقيقة الأمر.‏


فما من فعل من أفعاله سبحانه إلا وراءه حِكَمٌ تدلُّ على ‏عين النعم، ومن فتح الله بصيرته ذاق سراً من أسرار القدر ‏المصون، وقرَّت منه العيون، فالربُّ تعالى هو المسلِّم من ‏الآفات، الدافع للبليات، الذي وهب للإنسان الجوارح، ليدفع ‏بها الشدائد، وهو الذي سلَّمنا من الجوع بالغذاء، وسلَّمنا من ‏المرض بالدواء، وسلَّمنا من الجهل بالعلم، وسلَّمنا من الجنون ‏بالعقل والحلم، وسلَّمنا من الكفر بالتوحيد، وأنزل لنا القرآن ‏المجيد، وزحزحنا من النار بالإيمان، وأنقذنا من الخطر، بسيدنا ‏محمد صلى الله عليه وآله وسلم دليل الحيران، فهو الهادي إلى ‏‏"السلام". وهو الذي شرح صدورنا للإسلام، فتسليمنا ‏بعنايته، وإسلامنا بهدايته، وسلامتنا بفضله وإحسانه، وهدانا ‏بنوره، وظهور برهانه.‏


فكلُّ سلامة بين الأنام فهي من تجلِّي نور"السلام" ، وقد ‏قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللَّهُمَّ أنتَ ‏السَّلامُ)، لأنه صفتك (ومنكَ السَّلامُ) لأنه مددك، (وإليك ‏يعودُ السَّلامُ) لأن الأمر منك وإليك (1) ‏.‏


فإذا رأيت سلامةً في بدنك فاشكر "السَّلام" الذي سلَّم.‏


وإذا رأيت " السَّلام" في دينك وعرضك، فاشهد ‏‏"السَّلام" الذي تكرَّم.‏" اهـ


اقتباس:====================== الحاشية ======================

(1) ‏: روى البزار في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: وعن أبي سعيد قال: ‏كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح فطلعت الشمس قال: " اللهم أصبحت ‏وشهدت بما شهدت به على نفسك، وأشهدت ملائكتك وأولي العلم ومن لم يشهد بما ‏شهدت، فاكتب شهادتي مكان شهادته: اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك ‏يعود السلام يا ذا الجلال والإكرام، أن تستجيب لنا دعوتنا، وأن تعطينا رغبتنا، وأن ‏تغنينا عمن أغنيته عنا من خلقك. اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح ‏لي دنياي التي فيها معيشتي، وأصلح لي آخرتي التي إليها منقلبي".‏ ‏ انظر: مجمع الزوائد للهيثمي – كتاب الأذكار – باب ما يقول إذا أصبح وأمسى، ‏الحديث رقم 16998.‏" اهـ




( يتبع إن شاء الله تعالى مع: وقد سنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إفشاء ‏السلام‏ .... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:17 PM

"وقد سنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إفشاء ‏السلام، لأنه يغرس المودَّة في القلوب، ويجعل صاحبه متواضعاً ‏محبوباً (1) ‏.‏


ومعنى "السلام عليكم" يعني: الأمان لكم. فقد سلمتم من ‏أذانا وشرِّنا.‏


والسلام بمنـزلة العهد علينا لكم، وهو عنوان سرِّنا ، فإذا ‏ألقيت السلام علىالإخوان فاحذر أن تضمر السوء لأحد من ‏أهل الإيمان، فتصير منافقاً ظلوماً، وتبوء بالخسران، وتصبح ‏ملوماً (2)‏ ‏.‏" اهـ


اقتباس:======================= الحاشية =====================

(1) ‏ روى الشيخان وغيرهما: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ ‏قال تطعم الطعام، وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.

وروى مسلم وأبو ‏داود والترمذي وابن ماجه: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا ‏أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).

وروى البزار بإسناد جيد ‏مرفوعا: (دب إليكم داء الأمم قبلكم: البغضاء والحسد والبغضاء هي الحالقة ليست ‏حالقة الشعر ولكن حالقة الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا ‏تؤمنوا حتى تحابوا ألا أحدثكم بما يثبت لكم ذلك أفشوا السلام بينكم).

وروى ‏الطبراني مرفوعا: (ثلاثة يصفين لك ود أخيك تسلم عليه إذا لقيته وتوسع له في المجلس ‏وتدعوه بأحب أسمائه إليه).

وروى الترمذي وقال حديث حسن صحيح مرفوعا: ‏‏(أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام).

وروى ‏الطبراني بإسناد جيد: عن أبي سبرة قال: (قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني ‏الجنة، قال: "إن من موجبات المغفرة بذل السلام، وحسن الكلام".

وروى الشيخان ‏وغيرهما مرفوعا: (حق المسلم على المسلم ست فذكر منها رد السلام).

وروى الطبراني ‏‏عن الأغر، أغر مزينة، قال: كنا إذا طلع الرجل من يعيد بادرناه بالسلام قبل أن ‏يسلم علينا.

وروى أبو داود والترمذي وغيرهما مرفوعا: (إن أولى الناس بالله من ‏بدأهم بالسلام ).

وروى أبو داود والترمذي والنسائي مرفوعا: ( إذا انتهى أحدكم ‏إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم فليست الأولى أحق من الآخرة). وزاد ‏رزين العبدري: ومن سلم على قوم حين يقوم عنهم كان شريكهم فيما خاضوا من ‏الخير بعده.‏

وروى أبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه ‏وسلم فقال السلام عليكم فرد عليه السلام ثم جلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏عشر، ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فرد فجلس فقال النبي صلى الله عليه ‏وسلم عشرون، ثم جاء آخر، فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد فجلس فقال ‏ثلاثون، ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال أربعون، ‏قال هكذا تكون الفضائل. والله تعالى أعلم.‏

‏وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفشي السلام بيننا على العدو والصديق ‏من المسلمين ، ومعنى السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنت يا رسول ‏الله في أمان مني أن أخالف شرعك، فكان المسلم عليه يقر عينه صلى الله عليه وسلم ‏بذلك، وإلا فالأكابر من الناس كالسلطان آمنون من شر الأصاغر فليفهم. اعلم أن ‏الأكابر لا يهجرون أحدا إلا لمصلحة فهم يتركون السلام عليه تقبيحا لصنيعه وهم في ‏الباطن يحبونه محبة أهل الإسلام لبعضهم بعضا، فحكمهم كالطفل مع والدته تخوفه ‏ليرجع عن الفعل الرديء خوفا أن يتربى عليه وهي راحمة له في الباطن محبة له، وربما ‏نخسته بالإبرة في يده حتى يخرج دمه، فإياك أن تظن بهم أنهم تركوا السلام أو البشاشة ‏لإنسان لحظ نفوسهم.

وروي عن سيدي علي الخواص رحمه الله أنه كان يقول ‏لسيدي عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنهما : إذا مررت على عدوك فسلم عليه ‏واجهر له بالسلام، بحيث تصدع قلبه إن كنت تعلم من دينه أن يغلب نفسه ويرد ‏عليك السلام، وإلا فترك السلام عليه أولى لئلا توقعه في معصية بترك الرد الذي هو ‏واجب، وهو منزع دقيق فليتأمل. وقال مرة أخرى: البداءة بالسلام سنة، وهي أكثر ‏ثوابا من الرد، وإن كان واجبا، لا سيما بين المتشاحنين، فإن المبادرة لزوال الشحناء ‏واجبة، والسلام طريق إليها، وهو مستثنى من قاعدة أن ثواب الواجب أفضل من ثواب ‏السنة، والله أعلم.‏


(2) ‎ ‎‏: روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ ‏قالوا: يا رسول الله ..من أبو ضمضم ؟ قال: كان إذا خرج من منـزله يقول:"اللهم ‏إني تصدّقت بعرضي على عبادك". أخرجه أبو داود في سننه ، والضياء عن أنس بن ‏مالك رضي الله عنه . وابن السني في عمل اليوم والليلة ، والديلمي في مسند ‏الفردوس كلهم عن أنس (كنز العمال 3/374 الحديث 7011 ، 7025 ، ‏‏7026 ) . فلا يضمر لأحد من المسلمين إلا كل صفاء وخلوص ، وصدق ونصح ، ‏فيحسن الظن بكافتهم ، ويسيء الظن بنفسه، فيلاحظ أفعاله بعين الازدراء ، وأقواله ‏بعين الافتراء ، ويعتقد أنه شر الخلق ، فيرى الكبير خيراً منه لأنه عرف الله تعالى ‏وأطاعه قبله ، ويرى الصغير خيراً منه ،لأنه أقل منه معصية .‏

وقال المشايخ : إذا ظهر لك من أخيك عيب فاطلب له سبعين باباً من العذر ، فإن ‏اتضح لك فبها ، وإلا فعد على نفسك باللوم ، وقل : بئس الرجل أنت حيث لم تقبل ‏سبعين عذراً من أخيك ! .‏" اهـ




(يتبع إن شاء الله تعالى مع: وقد سلَّم سيدنا عيسى [ http://www.rubat.com/phpbb/images/smiles/salam.gif ] على نفسه عند ولادته .... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:18 PM

"وقد سلَّم سيدنا عيسى [ http://www.rubat.com/phpbb/images/smiles/salam.gif ] على نفسه عند ولادته فقال:‏‎ ‎{ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ ‏حَيًّا } (1) ‏. ‏


وسلَّم الحق تبارك وتعالى على سيدنا يحيى [ http://www.rubat.com/phpbb/images/smiles/salam.gif ] ، فقال:‏‎ ‎{وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} (2)‏ ‏ ‏.‏


والفرق بين السلامين : أن سيدنا عيسى - على نبينا ‏وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليمات - كمَّله الله في قواه، ‏ومزاياه، حتى صار مظهراً لنور اسمه "السلام" فسلَّم على ‏نفسه بطريق الخلافة عن الله (3)‏ ‏.


وسيدنا يحيى [ http://www.rubat.com/phpbb/images/smiles/salam.gif ] أفنى نفسه في أنوار "السلام" فسلَّم عليه ‏مولاه، لأنه وكيلٌ عن أحبابه، ونعم الوكيل.... .‏


والعبد المؤمن الذي يتجمَّل بنور اسمه"السلام" لا يجلس في ‏مجلس إلا ويجتهد في إيجاد الصلح بين الخصوم، وبنشر السلام ‏بين الخاص والعام، ويخلص الناس بوعظه، فيسلمون من ‏الشيطان، ويدلُّ الخلق على الله فيأمنون من غوائل ‏العصيان (4)‏.‏


وقد قال بعض العارفين رضي الله عنهم: إن سرَّ الله ‏الأعظم في " سورة يس"؛ ‏{ سَلامٌ قَوْلا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ }‏ (5)‏ ‏. ‏


والعارف بالله يشاهد في الكون بلاءً عظيماً فيرى النفس ‏تنازعه، والشيطان يراوغه، والدنيا بزينتها تغرّه، والأمراض ‏تهدِّدُه وتضره، فليس له ذكر إلا قوله: سلِّم، سلِّم، يا ربِّ ‏سلِّم". ويقول: يا رب سلِّم إيماني، وسلِّم قلبي، وسلِّم ‏جسمي. ‏


وفي الآخرة إذا اشتدَّت الأهوال يوم القيامة يكون ذكر ‏الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والملائكة: "سلِّم ، سلِّم، يا ‏ربِّ سلِّم"‏ (6) ‏. ‏" اهـ


اقتباس:======================= الحاشية =====================

(1) ‎ ‎‏: سورة مريم – الآية 33.‏

(2) ‎ ‎‏: سورة مريم – الآية 15.‏

(3) ‎ ‎‏: فكان عليه السلام بحق "عبد السلام" حيث تجلَّى له الحق سبحانه باسم "السلام" ‏فسلَّمه من كلِّ نقصٍ وآفة وعيب. ‏

(4) ‎ ‎‏: حكي أن بعض العارفين رأى رجلاً يغتاب إنساناً ؛ فقال له : هل غزوت الروم هذه ‏السنة ؟ قال : لا . قال : فهل غزوت الترك أو الهند ؟ قال : لا . قال : فكيف سلم ‏منك أعداؤك الكفار ، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟!!.‏

(5) ‎ ‎‏: سورة يس – الآية 58.‏

(6) ‎ ‎‏: عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : شعار المؤمنين ‏على الصراط يوم القيامة "رب سلم سلم". رواه الترمذي والحاكم في المستدرك ورزم ‏السيوطي في جامعه لصحته.‏" اهـ 4/285



(يتبع إن شاء الله تعالى مع: وخير من نال الحظ الوافر من هذا الاسم هو سيدنا رسول ‏الله صلى الله عليه وآله وسلم، ..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:18 PM

"وخير من نال الحظ الوافر من هذا الاسم هو سيدنا رسول ‏الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه سلَّم عقولنا من الخرافات، ‏وسلَّم أعراضنا من الدنس والدناءات، وسلَّم قلوبنا من الشرك ‏والسجود للصنم، وأشهد أرواحنا مال ذي الجود والكرم.‏


والوارث لأنوار اسمه "السلام" هو من سلم قلبه من الغش ‏والكبر، وكل العيوب الباطنة. وسلمت جوارحه الظاهرة من ‏المنكَرات، وسلمت روحه من شهود الأغيار والركون إليها، ‏وسلم من ضرره العباد.‏


وإذا لم يسلم العبد من نفسه ومعاصيها كيف يسلم منه ‏الخلق؟، ولكن طريق السلامة أن تجعل شهوتك وحظك ‏وهواك تحت قيادة العقل، وتجعل العقل تحت قيادة الشريعة مع ‏التسليم الكامل لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ‏قال تعالى مبيناً دعاء السيد الخليل وولده:‏‎ { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا ‏مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } (1)‏ ‏ ‏.‏


والسلامة كلها في ترك المعارضة لأحكام الله تعالى، ‏والتسليم لقدرته، والرضا عنه. ‏


فالسلامة أن تلقي سلاحك في حضرة مولاك، والسلاح ‏هو التدبير، والجزع، وعدم الرضا ‏(2) .



الدُّعـــــــاءُ


‏" إلهي...إن كل سلام وتسليم وسلامة من كل خطر جسيم؛ ‏فهو من تجلِّي نور اسمك: السلام. فأشرق نور السلام في قلبي ‏حتى أسلم من الخصام، وتجلى بالسلامة لديني بالفضل والإكرام، ‏وواجهني بأنوار هذا الاسم حتى أتحقَّق بالتسليم والسلام والمسالمة ‏لجنابك في أحكامك الشرعية والقدرية. وسلِّمني من الأمراض ‏والآفات، والعاهات، والبليات، حتى تسمع آذان روحي خطابك ‏القديم:‏‎ { سَلامٌ قَوْلا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (3)‏ ‏ ‏.وصلى الله على سيدنا ‏محمد وعلى آله وصحبه وسلم". " اهـ


اقتباس:======================= الحاشية ======================

(1)‏ ‎ ‎‏: سورة البقرة – الآية 128.‏

(2) ‎ ‎‏: وقد قال سيدي العارف بالله تعالى أبو الحسن الشاذلي: ترددت هل ألزم القفار ‏للطاعة والأذكار أو أرجع إلى الديار لصحبة الأخيار فوصف لي شيخ برأس جبل – ‏يقصد مولاي عبد السلام بن مشيش - فوصلت لغاره ليلاً فبت ببابه فسمعته يقول: ‏اللّهم إن قوماً سألوك أن تسخر لهم خلقك ففعلت فرضوا وأنا أسألك عني اعوجاج ‏الخلق حتى لا يكون لي ملجأ إلا أنت!. فقلت: يا نفس انظري من أي بحر يغترف هذا ‏الشيخ؟. فأصبحت فدخلت عليه فأرهبت من هيبته فقلت: كيف حالكم، فقال إني ‏أشكو إلى اللّه من برد الرضا والتسليم كما تشكو من حر التدبير والاختيار!. فقلت: ‏أما شكواي من حرهما فذقته، وأما شكواي من بردهما فلماذا، قال أخاف أن تشغلني ‏حلاوتهما عن اللّه تعالى. قلت: سمعتك الليلة تقول كذا فتبسم وقال عوض ما تقول ‏سخر لي خلقك، قل: كن لي. تراه إذا كان لك لا يفوتك شيء فما هذه الجبانة؟!.‏

(3) ‎ ‎‏: سورة يس – الآية 58.‏" اهـ 4/288



( يتبع إن شاء الله تعالى مع: المـُؤْمِنُ جلَّ جَلالُهُ ‏...... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:19 PM

المـُؤْمِنُ جلَّ جَلالُهُ



"هو المتفضِّل بالأمن والأمان، المفيض لأسباب الراحة للأكوان، الكلُّ في خوفٍ لولا أنه أمَّنهم، والجميع في ظلام لولا أنه أرشدهم.


فإذا نظر الإنسان إلى نفسه ونشأتها، وإلى ذاته في تركيب بدايتها، يرى ضعفاً ظاهراً، ولكن أمدَّه الله بأسباب القوة والأمان (1) .


فالأمراض تهدِّد العبد، والحظوظ تخرجه عن الحدّ، والشهوات توقعه في البعد، ومقتضيات البشرية تطالبه بالغذاء والملبس والمسكن بالجد والكد؛ فأمَّنه الله من شرِّ الأمراض بوجود الدَّواء، وأمَّنه من شرِّ الجوع بوجود الغذاء، وأمَّنه من شرِّ الحرِّ والبرد بوجود المسكن واللِّباس، وأمَّنه من عذاب النار بإرسال سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم منقذ البشرية.


فكلُّ أمنٍ في الوجود من تجلِّي نور اسمه: " المؤمن "، الودود، ولما كان الإيمان نوراً من تجلِّي اسمه "المؤمن" وهو سرٌّ بين العبد وسيِّده يعطى بفضل المحسن.


والإيمان أساس كل سعادة، ومنبع كل إفادة، لأنه شجرة مقرُّها ثابت في القلوب، وفرعها متَّصلٌ بعلاَّم الغيوب.


فكلُّ كرامة ونور وكشف وانشراح صدر، وهداية ، وبيان، ووصول إلى سرٍّ مصان، كل ذلك فروع الشجرة الإلهية، والعطية الربانية، فالجنَّةُ تزيَّنت للتَّشرُّف بأهل الإيمان، والملائكة خدمٌ لهم في فسيح الجنان. { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ } (2) ." اهـ


اقتباس:====================الحاشية ========================

(1) : ولذلك قال سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه في حكمه الجامعة:" نعمتان ما خرج موجود عنهما ، ولا بد لكل مكوَّن منهما : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد . يعني أنه لا بد لك مكوَّن أي موجود ، من نعمتين لا يخرج عنهما : الأولى نعمة الإيجاد ؛ أي نعمة هي إيجاد الله إياه بعد العدم السابق ، والثانية نعمة هي إمداد بالمنافع التي تقتضي بقاء صورته وهيكله إلى أجل مسمى فهو المنعم ابتداءً ودواماً.ثم قال: " أنعم عليك أولاً بالإيجاد ، وثانياً بتوالي الإمداد" .

وقد وجه الكلام في هذه الحكمة على طريق الخطاب؛ ليستحضرهما الإنسان في نفسه، ويعلم أن الإمداد متواصل لا يتخلله انقطاع، فيعرف من نفسه الفاقة الذاتية.فالاضطرار لازم لوجودك، وورود الأسباب كالفقر والمرض مذكرات لك بما خفي عليك من الفاقة الذاتية . فإن غالب الناس يغفلون عن الفاقة الذاتية إذا دامت عليهم صحة أبدانهم وكثرة أموالهم . بل قال بعضهم : إنما حمل فرعون على قوله: { أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى } طول العافية والغنى . فإنه لبث أربعمائة سنة لم يتصدع رأسه، ولم يضرب عليه عرق، ولو أخذته الشقيقة ساعة واحدة لشغله ذلك عن دعوى الربوبية . والفاقة الذاتية اللازمة للعبد لا ترفعها العوارض كالصحة والغنى ، فإنه يجوز في حقه تعالى أن يزيل ذلك . ويبدله بضده المقتضي للافتقار والاضطرار ، ولا يزايل العبد هذا الاضطرار لا في الدنيا ولا في الآخرة ولو دخل الجنة ، فهو محتاج إلى الله تعالى دائماً وأبداً ، وإذا لاحظ العبد ذلك وقف عند حده وقام بعبودية ربه ، وخاف من تهديد قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ }.


(2) : سورة الحجرات – الآية 17." اهـ 4/292





(يتبع إن شاء الله تعالى مع: "فلا تظنّ أن هناك سعادة فوق الإيمان، ..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:19 PM

"فلا تظنّ أن هناك سعادة فوق الإيمان، واحذر من نزغات الشيطان، واعلم بأن الشيطان لا يحارب إلا القلب العامر بالإيمان، لأنه كنـز تتجلَّى فيه أسرار الرحمن، فهو ينتهز فرصة غفلتك واشتغالك بلذتك، ويهجم على القلب فيسرق منه ثمرة من ثمرات الإيمان.


واعلم أن اللص قسمان: الأول: يسرق الجيوب. والثاني: يسرق القلوب.


فكما تحرص على الأموال ، فاحرص على كنـز السعادة ومنبع الكمال، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن) .


وهكذا جميع المعاصي، يعني أن نور المراقبة يفارقه، ويفوته الكمال والمزيد، ويستحوذ الشيطان المريد، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة ) (2) . يعني: شجرة الإيمان كشجرة لها بضعٌ وسبعون فرعاً، كل فرعٍ له ثمرة خاصة، فالحياء من الإيمان (3) ، والرحمة من الإيمان. وحب الوطن من الإيمان (4) .


وهنا أنبهك إلى الوطن كذلك هو موطن الإقامة بدار السعد، فالجنَّة هي الوطن الباقي في جوار الواقي، والتواضع وحب الفقراء من الإيمان، والبحث عن العلماء العاملين، واحترامهم من الإيمان. وبغض المعاصي وأهلها من الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه ) (5) .


وقد ذكر العلماء أن الأخ ولو كان أخاك في الإنسانية لا في الدين؛ تحبّ له ما تحب لنفسك، وأهمها أن تتمنَّى له الإسلام، وتتجمَّل له بالأخلاق الفاضلة ليعشق الدين. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن من أمن جاره بوائقه ) (6) . يعني: أمن شرّه وضره، فهو يغض الطرف عن عوراته، ويعفو عن سيئاته. " اهـ


اقتباس:====================== الحاشية ======================


(1) - قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) . رواه الإمام أحمد، والبخاري عن أبي هريرة، وزاد في رواية "ولا تنتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن"،. وزاد مسلم، وأبو داود والترمذي والنسائي "والتوبة معروضة بعد"، وزاد في رواية عن مسلم وأحمد "ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن، فإياكم إياكم". ورواه الشيخان، والنسائي عن ابن عباس بلفظ: ( لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يقتل وهو مؤمن). زاد عبد الرزاق: ( ولا ينتهب النهبة وهو مؤمن) .وفي الباب عن عبد الله بن أبي أوفى وعن عبد الله بن مغفل وعن علي وعائشة وابن عمر. ولفظ الترجمة عند الطبراني عن أبي سعيد، وزاد: يخرج منه الإيمان، فإن تاب رجع إليه.‏
انظر: كشف الخفاء للعجلوني – الحديث رقم 3070.

(2) : حديث ( الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). رواه الإمام مسلم في صحيحه، وأبو داود في السنن، والنسائي في سننه، وابن أبي الدنيا بسندهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
انظر: كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعلامة العجلوني – الحديث رقم 26.


(3) : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( الحياء من الإيمان) . رواه مسلم في صحيحه، والترمذي في السنن.

(4) : قوله: ( حب الوطن من الإيمان) هكذا يرد على أنه حديث وجرت الألسنة به، قال في ‏تذكرة الموضوعات،للإمام الفَتّنِي - في: كتاب التوحيد - باب الإيمان بالله وبالقدر ومعرفته وشعبه وفضل من دعا إليه: "حب الوطن من الإيمان": لم أقف عليه ومعناه صحيح.‏

(5) : قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري، ومسلم في صحيحيهما، والترمذي والنسائي وابن ماجة في سننهم ، كلهم بسندهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه. انظر: الجامع الصغير للإمام السيوطي – الحديث رقم 9940.

(6) : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ". وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن!) قيل: من يا رَسُول اللَّهِ؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية لمسلم (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) . والبوائق: الغوائل والشرور."اهـ 4/297



(يتبع إن شاء الله تعالى.... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:19 PM

"ولما كان المؤمن قد ائتمنه الله على كنـز ثمين غال، وأمانة فوق قدر الأرواح في مقامها العالي، لذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( المؤمن مرآة المؤمن ) (1) .


وذلك لأن المؤمن إذا رأى أخاه المؤمن تجلَّى لكل واحد نقصه، فتكمل بكمال أخيه.


وهناك معنى آخر وهو: أنَّ العبد المؤمن مرآة لظهور الرب "المؤمن"، فمتى رأى العبد المؤمن تجلي نورِ الربِّ "المؤمن" لأنه هو مفيض الإيمان، ومقيم البرهان، ومنـزل القرآن، فالعبد المؤمن إن نظر إلى نفسه ظهر له نور ربه "المؤمن"... (2) .


والمؤمن هو الذي آمن بالغيب، وهو عنده كالشهادة، فالجنة كأنه يراها، والمحشر كأنه فيه، والصراط كأنه مارٌّ عليه.


وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لسيدنا حارثة: " كيف أصبحت يا حارثة؟!.
قال: أصبحت مؤمناً حقاً.
فقال له: إن لكلِّ حقٍّ حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟.
قال: تركت الدنيا حتى استوى عندي ذهبها وحجرها، وحلوها ومرّها، وكأني أرى القيامة قامت، وأرى عرش ربي بارزا، وأرى أهل الجنة يتزاورون فيها، وأهل النار يتعاوون فيها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:عرفت فالزم...(3) .


فمتى أخبرنا القرآن بحقيقة فتأكَّدْ بأنها فوق شهود أبصارنا، لأن نظرنا قاصر، والقرآن كلام الحكيم القادر.


وكلُّ عبدٍ تجمَّل بالرحمة على العباد فأرشدهم إلى السعادة، والدارة الآخرة، ونبهم إلى فضائل الإيمان حتى يأمنوا بسببه من شر النار والعار والأخطار، هذا هو العبد المؤمن الوارث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي من عاشره نجا من الهلاك والكفر (4) .


وخير أمان محصن بحصون الرحمن أن تضع يدك في يمين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي شريعته الغرَّاء، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممسك بيمين الرحمن، وهو القرآن، فاربط به القلب لأنه أول العباد إيمانا.


قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} (5) .


فأكثر من الصلاة عليه ، واربط قلبك به؛ فهو وسيلة أوصلت إليك الإيمان حتى عرفت الرحمن، فأكثر من ذكر المؤمن، وتوسَّل بعبده المؤمن، يتجلى لك نور المؤمن في قلبك، وتشرق على جوارحك؛ فتراك مرآة لتجليه وظهور معانيه.. .


الدُّعــــــاءُ


" إلهي.... تجلِّي لي بنور اسمك المؤمن حتى آنس بك في سري، وفي علني، وظاهري، وباطني، فإن كل نعمة نورانية هي قبس من تجلي اسمك المؤمن، فكلُّ أمن وأمان هو منك موهوب، وإليك يرجع الأمر كله يا علاَّم الغيوب، فنور إيماني من تجليك، ونور أذكاري من هدايتك وعنايتك، وحالي غير خافٍ عليك، فاحفظ علينا الإيمان يا رحمن!!!.

وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم". ." اهـ 4/302


اقتباس:======================= الحاشية ====================

(1) : قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( المؤمن مرآة المؤمن) . رواه أبو داود عن أبي هريرة رفعه، والعسكري من طرق عن أبي هريرة ولفظه في بعضها: (إن أحدكم مرآة أخيه فإذا رأى شيئا فليمطه). وأخرجه الطبراني والبزار والقضاعي عن أنس، وأخرجه ابن المبارك عن الحسن من قوله، وقال في اللآلئ أخرجه أبو داود في سننه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه)، وفي إسناده كثير بن زيد مختلف في عدالته انتهى. والمشهور: ( المؤمن مرآة أخيه) .


(2) : فتكون بذلك من الذين تحقَّقوا باسمه تعالى:"المؤمن" ومن آثار هذا التحقق أن يشرق نور اليقين في قلبك، حتى ترى الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها، وترى الدنيا وكسفة الفناء ظاهرة عليها، ويصير ما كان غيباً عندك شهادة، وما كان آجلاً صار عاجلاً، وأن يعظم صدقك حتى تصدّق بالمحال عادة. روي أن سيدنا عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام رآى رجلاً يسرق، فقال:سرقت يا فلان؟ فقال: لا والله، ما سرقت، يا روح الله . فقال عيسى عليه السلام: آمنت بالله وكذبت عيني . فإذا تحقق صدقك، ورسخ فيه قدمك، كتبت عند الله من الصديقين المقربين حشرنا الله معهم، آمين.


(3) : حديث سيدنا حارثة : أخرجه البزار من حديث أنس، والطبراني من حديث الحارث بن مالك، قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء المجلد الرابع - كتاب الصبر والشكر: وكلا الحديثين ضعيف.


(4) : ومن جملة التخلق بهذا الاسم العظيم: أن يعظم صدقك، ويقوى إيمانك حتى لا يخالط قلبك ريب، ولا وهم، ولا ينـزل بساحته جزع ولا هم، وأن يأمن الخلق كلهم من جانبك، لقوله عليه الصلاة والسلام:( والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)، وأن تصدق كل من يقصد نصحك، ويخبرك بما فيه صلاحك، ورشدك .


(5) : سورة البقرة – الآية 285." اهـ



(يتبع إن شاء الله تعالى مع ..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:20 PM

المُهَيْمِنُ جَلَّ جَلالُه



"هو المشرف على أعمال العباد، القائم بأرزاقهم وآجالهم، وهو القائم لجميع الوجود بالاستيلاء والحفظ، فالاطِّلاع يرجع إلى سعة العلم، والحفظ يرجع إلى نفوذ القدرة، وليس ذلك إلا لله تعالى (1) .


والعبد الذي يريد أن يتخلق بهذا الاسم: فليراقب قلبه وخواطره، ونفسه ودسائسها، ويقوم أعضاء جسمه على نهج الشريعة، فيكون وارثاً لأنوار "المهيمن" في نفسه، فإذا اتسع إشراقه ونفوذ بصيرته، حتى قام بحفظ عباد الله، وتقويمهم على نهج السداد، ومداواة سرائرهم بالعطف والرحمة على مصالحهم، فهو الوارث لأوفر حظٍّ وأعظمِ نصيبٍ من اسمه:"المهيمن"، وهو أقرب العباد من "المهيمن" (2) .


والذي تحقَّق بنور هذا الاسم على أكمل حال هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه كان حريصاً على نجاة الأمة، رحيماً بجميع العوالم؛ حتى الكافر والمنافق فقد نفذت بصيرته في سرائر الكل وضمائرهم، فداواهم بالرحمة، وحذَّرهم من النقمة، وبذل في إنقاذهم أنفاسه الغالية، وأقواله العالية. " اهـ4/304


اقتباس:==================== الحاشية ===================


(1) : وأحسن ماقيل فيه قول بعضهم: إن المهيمن هو الشاهد المحيط بداخلة ما شهد فيه، فلذلك يقل وقوعه في شهداء الخلق، بمعنى أنه سبحانه هو القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم ، وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه وحفظه، وكل مشرف على كنه الأمر مسؤول عليه حافظ له، فهو مهيمن عليه، والإشراف يرجع إلى العلم، والاستيلاء إلى كمال القدرة، والحفظ إلى العقل .فالجامع بين هذه المعاني اسمه (المهيمن) ولن يجمع ذلك على الإطلاق والكمال إلا الله تعالى؛ ولذلك قيل إنه من أسماء الله تعالى في الكتب القديمة ويحق اختصاصه بالشهيد الحق، لعلمه بإحاطة ما هو الشاهد فيه وكمال إنبائه عنه، فهو اسم جامع لما يرجع لمعنى العلم والكلام.


(2) : ومن التخلق به: أن تكون مهيمناً على نفسك، بأن تحاسبها، وتراقبها في كل أحوالها، علماً بأنه لا تخفى عليه خافية، وأن تنـزل به حوائجك وتكتفي بنظره لك، علماً بأنه رقيب عليك، وحفيظ لك. أما التحقق به: فبأن تسكن المراقبة في قلبك، حتى لا يخطر عليك - في الغالب - خاطر سوء.

قال القشيري في التحبير: أن من آداب الذي عرف معنى هذا الاسم أن يكون مستحيياً من اطلاع الله المهيمن عليه ورؤيته له، وهذه هي المراقبة عند أهل التحقيق، ومعناها: علم القلب باطلاع الرب . ولذلك رووا أن إبراهيم ابن أدهم كان يصلي ليلة، وحين جلس مدَّ رجليه، فهتف به هاتف: أهكذا تجالس الملوك ؟ .

وقال أبو محمد الجريري: من لم يحكم بينه وبين الله التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف والمشاهدة." اهـ




(يتبع إن شاء الله تعالى..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:21 PM

"وقام من بعده بهذا الميراث خليفته الصدِّيق [ http://www.rubat.com/phpbb/images/smiles/radeya1.gif ] ، فبذل جميع قواه، وسهر الليل في إنقاذ عباد الله، ونفذت بصيرته إلى معرفة الغائب والشاهد، وقام بالحق وهو خير مجاهد.


وورث هذا أيضاً الخليفة الفاروق [ http://www.rubat.com/phpbb/images/smiles/radeya1.gif ] ، فكان يبحث عن الضعفاء ، ويواسي الفقراء، ويتجسَّس على كل مخالف، ويبحث عن كل مضطر، فيدفع عنه الآلام، وهكذا جميع الخلفاء وبعده الأولياء [ http://www.rubat.com/phpbb/images/smiles/radeya2.gif ].


وسرُّ مكاشفة الرجال بأسرار تلاميذهم هو تخلُّقهم بنور هذا الاسم الجليل.


وإذا أردت أن تفوز بسرِّ هذا الاسم فابحث عن العارفين أهل الهمة العالية والبصيرة النافذة، واعشق فيهم تلك المكارم، وتحبَّب إليهم حتى يحصل لك الاتحاد بمبادئهم الكلية، وتذوق أسرارهم الغالية، وعند ذلك يتجلَّى لك فيك سر"المهيمن" فتهيمن على جميع قواك فتحاسب ضميرك ونفسك على الهفوات والخطرات، وتهيمن على أهلك وأقاربك وأصدقائك، فتراقب أعمالهم، وتلاحظ أسرارهم، فتكمل الناقص، وتنبِّه الغافل.


وإذا أكثرت من ذكر هذا الاسم مع ملاحظة تلك المعاني، أمدَّك "المهيمن" بسرِّه، وأطلعك على باهر أمره.



الدُّعـــــاءُ


"إلهي.... أنت المهيمن الذي أحاط علمه بالعوالم، ونفذت قدرته في الوجود. أشرق لي سرَّ هذا الاسم الشريف، حتى أحيط علماً بدقائق نفسي، وخفايا ضميري، وطوايا سري، فأراقب النوايا، وأقوِّم الجوارح، وأقومها على ما تحب، وأنفذ همتي بقدرتك في جوارحي، فأصرفها في شرعك، وتسري بصيرتي في العالم، فأمدَّ الجميع بمددك الفيَّاض، وألاحظهم بسرِّك الساري، إنك على كل شيء قدير.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم"." اهـ 4/307





(يتبع إن شاء الله تعالى مع: العَزِيزُ جَلَّ جَلالُهُ..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:21 PM

العَزِيزُ جَلَّ جَلالُهُ


"هو: جليل القدر، خطيرٌ، غالبٌ في حقيقة الأمر، تتحيَّر العقول في كماله وفضله، وهو من تشتدُّ الحاجة إليه، ولا يوجد له نظير.


فالشمس مثلاً تشتدُّ الحاجة إليها ولا يصعب الوصول إلى ضيائها، كذا الأرض نفعها كثير ، سهلٌ يسير، ولا نظير للشمس والأرض في المنفعة.


فالشمس وإن كانت واحدة، ولكنها مملوكة مقهورة، يسيرها السحاب، وتحبسها الأرض، ويعتريها الكسوف، ويمكن لله أن يوجد مثلها أو أحسن منها، فكل الحقائق مهما كانت جليلة كثيرة النفع فهي محتاجة إلى مُمِدٍّ يبقيها، وحيٍّ يحييها.


و"العزيز" المطلق هو الله الواحد الأحد، الغني بذاته عن جميع العوالم، والكلُّ مفتقر إليه، ويسندون حاجاتهم إليه، فهو"العزيز" والكلُّ أذلاَّء، وهو القوي والكلُّ ضعفاء.


ومن أراد أن يذوق من رحيق العزة في نفسه، وفي إخوانه، فلتمسَّكْ بتعاليم طه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ويرخص كل عزيز في طلب "العزيز"، فالأموال مبذولة، والأوقات معمورة بذكره، والنفس رخيصة في معاينة سره.


فإذا كانت الجنة عزيزة عندك لم تدرك سرَّ"العزيز"، فالعزيز هو الله، فلا تطلب غيره حتى يواجهك بنور العزة، فتصير عزيزاً في عصرك، فريداً في دهرك، وتطلبك الأرواح لتعرفها كمال "العزيز".
والعزيز في عصره هو من يحيي القلوب بإرشاده، ويدلُّهم على الله، فيكشف لنفوسهم نور"العزيز" فيضحّي في سبيله كل غال ونفيس (1) ." اهـ 4/309


اقتباس:======================= الحاشية ===================


(1) : : وذلك لأن العبد الذي يريد التعلق بهذا الاسم فعليه بطلب الهداية لأسباب العز، والانخراط في سلك أهل العز بالله، وهم أهل الطاعة والإيمان، وأهل المحبة والعرفان. قال تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} .وقال بعضهم: من أراد العزة فليطع العزيز. وقال بعض العارفين: ظهور عزِّه للقلوب يقتضي وجود الخضوع منها له، والهيبة والاجلال والتعظيم ، وبذلك عز الأبد، ونسيان الغير تعززاً به تعالى، وذلك بساط الولاية ( )، لقوله تعالى: { وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}. ومن أراد التخلق به فيكون: برفع الهمة عن الخلق، والاعتماد على الملك الحق، لأن ذلك نتيجة العز بالله وسبب الزيادة منه . قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: والله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق . وقال سيدي ابن عطاء الله السكندري [ http://www.rubat.com/phpbb/images/smiles/radeya1.gif ] في التنوير: ويقال لك إذا استندت إلى غير الله فعدمته، أو اعتمدت عليه ففقدته، و{وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا }. وقال الإمام القشيري [ http://www.rubat.com/phpbb/images/smiles/radeya1.gif ] في " التحبير" : فإنما يعرف الله تعالى عزيزاً من أعز أمره بالسمع والطاعة، فأما من استهان بأمره فمن المحال أنه تحقق عزه، ومن عرف عزه يُمنَع فيشكُر، ويُبتلى فيصبر، ويستلذ لحكمه الهوان، فيستحلي الحرمان، لأن القلوب مجبولة على تحمل المشاق من الأكابر والأعزة ، والانقياد لأحكامها بالجوارح والقلوب ." اهـ




(يتبع إن شاء الله تعالى..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:22 PM

"وأعلى رتبة في ذلك الأنبياء [ http://www.rubat.com/phpbb/images/smiles/salawat.gif ] ، ثم ورثتهم [ http://www.rubat.com/phpbb/images/smiles/radeya2.gif ] ، فإذا رأيت رجلاً عنده شيء عزيز غير الله فاعلم أنه لم يتجمَّل بأنوار "العزيز" تعالى.


ولما كانت العزَّة هي صفة الله"العزيز" قال تعالى: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } (1) .

ولله [ http://www.rubat.com/phpbb/images/smiles/azza.gif ] : تحقيقاً.

ولرسوله [ http://www.rubat.com/phpbb/images/smiles/salla.gif ] : فضلاً، لأنه محبوب له أزلاً.

وللمؤمنين [ http://www.rubat.com/phpbb/images/smiles/radeya2.gif ] : ببركة إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عظيم الجاه (2) .


واعلم أن حضرة "العزيز" لا يمكنك الوصول إليها، ولكن ابحث عن أهل العزَّة في عصرك وهم المقبلون على الله تعالى، الشاربون الحُمَيّا فمتى وصلت إليهم فقد ظفرت بأنوار العزة.


ولقد كان الإمام الشاذلي رضي الله عنه، وغيره من الأفراد يسيحـون في الأرض، ويسألون عن الرجال ليصلوا إلى أهل العزة، وقد فازوا والحمد لله (3) .


وإنني - والحمد لله - قد أكرمني الله بالرجل المتحقِّق بأنوار العزة وهو الإمام أبو العزائم - رضي الله تعالى عنه - فتخلَّص قلبي على يديه من عقبات وظلمات، وتخلَّصت نفسي من رذائل ودسائس وخفيات، فشكرت الله على تلك السعادة، وأنا أعترف بتقصيري ، وأسأل الله الزيادة.


وقد رأيت رجلاً من أهل الإخلاص سائحاً مهاجراً، فقلت له: ما السبب في السياحة؟ (4) ، فقال لي: إني أطلب الرجل الواصل إلى الحقيقة فإنه عزيز بين الخليقة، وقد سافرت إلى الشام، ثم إلى الحجاز، ثم إلى اليمن، ثم إلى السودان، ثم إلى مصر!!. فأسمعته سرّاً من أسرار الإمام أبي العزائم رضي الله تعالى عنه؛ فاهتزَّ وتمايل وقال:" واشوقاه إلى أهل هذا الكلام!، يا ليتنا وجدنا في عصرهم لنحظى بالمرام". فقلت له: صاحب هذا الكلام في هذا الزمان، وهو يقيم بمصر يرشد الإخوان؛ فتوجَّه الرجل في الحال، ونال من الإمام حلَّةَ الوصال، وصار من العارفين ببركة اتِّصاله بالوارث الأمين.


الدُّعــــــاءُ


" إلهي.... أنت العزيز الذي تسند إليك حاجات العباد، وأنت العظيم الذي يصعب الوصول إلى عزَّتك، وأنت للقلوب مراد، وأنت الجليل الواحد الأحد الذي لا نظير لك، وتنـزهت عن المثل والأمثال، والأنداد. صفِّ قلبي من الأغيار (5) حتى لا يرى عزيزاً سواك، وأشهدني معنى العزة في نفسي لتكون روحي فداك، واجمعني على العارفين الذين منحتهم العزة فكانت قلوبهم بعزتك عامرة. وأفض عليَّ من أسرار عزتك حتى تصير نفسي إليك طائرة، واجعلني وإخواني داخلين تحت قولك سبحانك : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } (6) ، وانفحني وإخواني في كل وقت وحين، إنك على كل شيء قدير. وصلِّ اللهمَّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".


اقتباس:==================== الحاشية ==================

(1) : سورة المناقون - الآية 8.
قال سيدي ابن عطاء الله في الحكم: "إن أردت أن يكون لك عز لا يفنى، فلا تستعزّنّ بعزّ يفنى. وقالوا: من تعزّز بمخلوق مات عزّه. وأنشدوا :-

ليكن بربك عـــزّك *** تســـتقرّ وتثبـت
فإن اعتززت بمن يمو *** ت فإن عزّك ميتُ

(2) : حكي أن رجلاً أمر بالمعروف على هارون الرشيد رضي الله عنه، فغضب عليه هارون، وكان له بغلة سيئة الخلق فقال: اربطوه معها حتى تقتله، ففعلوا ذلك، فلم تضره ! فقال: اطرحوه في بيت وطينوا عليه الباب، ففعلوا فرأوه في البستان مع أن باب البيت كان مسدوداً كما كان! فقال: من الذي أدخلك هذا البستان؟ قال: الذي أخرجني من البيت. فقال هارون: أركبوه دابة وطوفوا به في البلد، وقولوا : إن هارون أراد أن يذل عبداً أعزه الله، فعجز عنه.

(3) : لذلك لا عجب إن سمعنا أن كثيراً من الصالحين والعارفين والعلماء العاملين من سلف هذه الأمة المباركة قد ساحوا من شرق البلاد إلى غربها وبالعكس بحثاً عن شيخ لهم يأخذ بيدهم ويوصلهم إلى ربهم ، يخليهم من كل خلق ذميم، ويحليهم بكل خلق كريم، ويرقيهم في معارج الكمال ومدارج اليقين، اسمع معي يا أخي إلى مقالة سيدي القطب أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه وأرضاه وهو يحكي لنا قصة لقائه مع شيخه قطب العارفين سيدي ومولاي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه ، يقول إمامنا الشاذلي: " لما دخـلت العراق اجـتمعت بالشيخ الصالح أبي الفتح الموصلي، فما رأيت بالعراق مثله وكان مطلبي على القطب، فقال لي بعض الأولياء: أنـت تطلب القطب وهو ببلادك ؟!! ، ارجـع إلى بلادك تجده!!". فرجـع إلى بلاده إلى أن اجتمع بسيدي عبد السلام بن مشيش وتربى على يديه، وكان يقول له في تربيته له: " الزم الطهارة من الشرك، كلما أحدثت تطهر من دنس حب الدنيا، وكلَّما ملت إلى شهوة أصلحت بالتوبة ما أفسدت بالهوى أو كدت، وعليك بمحبة الله على التوقير والنـزاهة، وأدمن الشرب بكأسها مع السكر والصحو، كلَّما أفقت أو تيقظت شربت، حيث يكون سكرك وصحوك به، وحيث تغيب بجماله عن المحبة والشراب، والشرب والكأس، بما يبدو لك من نور جماله، وقدس جلاله".

(4) : وليس المقصود من السياحة ما تعورف عليه اليوم من تضييع الوقت وتزجيته في التفرج على شواطيء البحار وفيها المعاصي من كل جنس ولون، ولا التفرج في بلاد الكفر والمعاصي على الملاهي ونوادي العراة، ومنتديات القمار فهذه ليست سياحة إنما هي بالتعبير الدارج: " صِياعَة، وتحلُّلٌ، وإباحية، " حيث يذهب أحدهم إلى تلك الأماكن المحرَّمة فبدلاً أن يعود بعبرة يعود بغبرة، ويزداد هذا "السائح - أو الصَّايع - " إثماً على إثمه، ويرجع إلى بلده بذنوب لو وزعت على أهل الأرض لوسعتهم! - إلا أن يتغمدهم الله برحمته ويتداركهم بلطفه -، هذه هي "الصِّياعَة أو السياحة" كما تعارف عليها أهل زماننا الأغبر، وأيامنا النحسات.

أما السياحة الحقيقية والسياح المقصودون كما اصطلح عليه ساداتنا الصوفية رضي الله عنهم فهم: المنقطعون بالجبال والشعاب والسواحل وبطون الأودية، ويسمون "السياح"، ومنهم من يلازم بيته وصلاة الجماعات، ويشتغل بنفسه، ومنهم صاحب سبب ومنهم تارك السبب، وهم صلحاء الظاهر والباطن، وقد عصموا من الغل والحسد والحرص، والطمع والشره المذموم، وصرفوا كل هذه الأوصاف إلى الجهات المحمودة، ولا رائحة عندهم من المعارف الإلهية والأسرار ومطالعة الملكوت والفهم عن الله تعالى في آياته حين تتلى غير أن الثواب لهم مشهود، والقيامة وأهوالها ، والجنة والنار لهم مشهودتان، دموعهم في محاريبهم: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}، و {تضرُّعاً وخفية} : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}،{ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}، {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}، شغلهم هول المعاد عن الرقاد، وضمروا بطونهم بالصيام للسباق في حلبة النجاة، إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما، ليسوا من أهل الإثم والباطل في شيء، عمَّالٌ وأي عمَّال؟! عاملوا الحق بالتعظيم والإجلال، فشتان شتان ما بين ما كانوا عليه وما صار حالنا إليه، يا حسرة على العباد!!!.

(5) : الأغيار: كل ما سوى الله عز وجل.

(6) : سورة المنافقون - الآية 8." اهـ 4/318



(يتبع إن شاء الله تعالى مع الإسم الشريف الجليل: الْجَبَّارُ جَلَّ جَلالُهُ................... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:22 PM

الْجَبَّارُ جَلَّ جَلالُهُ


"هو الذي تنفذ مشيئته جبراً، ويظهر أحكامه قهراً، ولا يخرج أحدٌ عن قبضة تقديره، ولا ينفد أحدٌ من مشيئته في تقديره وأحكامه، وليس ذلك إلا لله، ولا يجبره أحد ولو كان عظيماً في همَّته.


وقد أشار لذلك العارفون فقالوا:" همَّة الرجال لا تخرق أسوار القدر في أي حال" (1) .


والجبَّار من العارفين: هو المنكسر في الظاهر والباطن (2) . جبر " الجبَّار" كسره، ورفع قدره، ونشر ذكره، وحلاَّه بالحال، وجمَّله بالمقال، فكلُّ من رآه جبرته حالته على أن يصغي إليه، لأن حالته الظاهرة مجملة جذَّابة للقلوب، وسريرته الباطنة معمورة بأسرار الغيوب، فيصير قدوة متبوعاً نافعاً، والكلُّ تابع له، يشهدون فيه الخير، مَن تابَعَهُ جبر كسره، وانصلح أمره، له همَّةٌ عالية، تذلُّ الكفرة والفجرة. لا يهمه إلا ظهور الحق، ولا يأنس إلا بأهل الصدق، ومن وجد فيه هذا الخلق وجب علينا أن نحبَّه ونتمسك بهديه، فإن له العناية في سعيه.


فإذا أردت أن تتجمَّل بأنوار هذا الاسم الشريف فتمسَّكْ بهدي طه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، وتجمَّل بالذل لله، وتخلَّق بالخلق الحميد حتى يلبسك الله حلة الهيبة، فتجبر القلوب على احترامك، وتخضع القلوب عند رؤيتك وكلامك. وإذا رأيت ظلماً انتشر بين العباد فاجمع إخوانك وتوبوا إلى الله ، وتوسَّلوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقولا:" يا جبَّار!! بأدب واستحضار، حتى يتجلَّى لكم الربُّ فينصركم، ويجبركم، ويقهر خصمكم (3) .


والعبدُ المحبوب لله هو الذي يكون جباراً على نفسه، شديداً على الكفار والعصاة، لا يلين لنسه، وينفذ همته فيها مع شدة بأسه، يكون جباراً على الشيطان، محترساً من العصيان، متيقظاً في دقائق الأمور ، متنبهاً عند وساوس الصدور.


الدُّعــــــاءُ


"إلهي... أنت الجبَّار الذي تنفذ مشيئتك في جميع العوالم، وأنت القهار لكل عدوٍّ ظالم، فتسلِّط جبروت الانتقام على كل مسيء لبني الإسلام. أمدَّنا بالقوة النافذة العالية حتى نتجبَّرَ على أنفسنا، ونتعالى على الكفار وأهل الشرور، ونتخلَّص من الشيطان الرجيم، وامنحنا الانكسار لجنابك حتى تجبر كسرنا، وأعطنا التمسُّك بالشرع حتى ينصلح أمرنا، إنك على كل شيء قدير. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم." اهـ


================================

(1) - : يقول سيدي ابن عطاء في بعض حكمه الجليلة:" سَوابِقُ الهِمَمِ لا تَخْرِقُ أَسْوارَ الأَقْدَارِ ". يعني: أن ما قدره الله في الأزل لا تَخْرِقُ أسوارَه المحيطة به - فضلاَ عن أن تصل إليه - سوابقُ الهمم ؛ أي الهمم السوابق ، وهي قوى النفس التي تنفعل عنها الأشياء بإرادة الله تعالى، وتكون للولي كرامة ، ولغيره كالساحر والعائن إهانة . وفيه تشبيه الأقدار بمدينة لها أسوار في الصيانة والحفظ على سبيل المكنية . ؛ أي يجب عليك - أيها المريد - أن تعتقد أن الهمم أسباب عادية لا تأثير لها، وما ينشأ عنها إنما هو بقضاء الله تعالى وقدره، فيكون عندها لا بها . فإرادتك خلاف ما أراده مولاك لا تجدي نفعاً ، ولا تأثيراً لها في الحقيقة ، حتى تظن أنها توجب لك رفعاً .فـ:" أرِحْ نَفْسَكَ مِنَ التَّدْبِيرِ ، فما قامَ بهِ غيرُكَ عنْكَ لا تَقُم بهِ لنفسِكَ ".

(2) : فالتحقق بهذا الاسم: أن يكون عندك نور يخرق البواطن، فكل من واجهك انجبر كسره، ونهض حاله، فتجبر ما فسد من القلوب حتى تتهيأ لحضرة علاّم الغيوب.

(3) : فالتعلق بهذا الاسم كما قال سيدي ابن عجيبة في شرحه لهذا الاسم: بأن تبتهل إلى الله سبحانه في جبر خللك، وتكميل نقصك، أو بأن تكون جبّاراً على نفسك، قاهراً لهواك وشيطانك ، مالكاً لأحوالك تأخذ النصيب من كل شيء ، ولا ينقص من نصيبك شيء . فمن علم أنه "الجبار" دقَّ في عينيه كل جبار، وكان راجعاً إليه في كل أمر بوصف الافتقار، فجبر المكسور من أعماله، ورجّى الناقص من آماله." اهـ






(يتبع إن شاء الله تعالى مع اسمه الشريف: المُتَكَبِّرُ جَلَّ جَلالُهُ..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:22 PM

المُتَكَبِّرُ جَلَّ جَلالُهُ



"هو الذي يرى الكلَّ حقيراً بالنسبة لذاته، ويرى العظمة والكبرياء لنفسه، وينظر إلى العوالم كلها نظر الملك لعبيده المملوكين. تفرَّدت ذاته بالعظمة، وكل ما سواه يتَّصف بالذل أمام هذه العزة.


وليس هذا الوصف إلا لله تعالى شهوداً وتحقيقاً، وكل شخص ادَّعى الكبرياء والعظمة وتعالى على العالم، حاربه الله تعالى وقصم ظهره، وخذله، وقهره.


قال تعالى في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي، والعظَمَةُ إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قصمته ولا أبالي) (1) .


وسر خذلان الإنسان وضياع الآمال هو التكبُّر على الإخوان (2) ، يرى نفسه خيراً منهم، أو متميزاً عنهم، وسرُّ عزِّ الرجال ووصولهم إلى الكمال هو التواضع لله ذي الجلال .


قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من تواضع لله رفعه) (3) .


والمتكبِّر تبغضه جميع العوالم لأنه جهولٌ ظالم، يأخذ أوصاف الملك المتكبر، ويدَّعي أنها له، فيظهر بالتكبُّر والتجبُّر، فيجعله الله عبرةً للمعتبرين، وموعظةً للخائفين.


وقد ادَّعى ذلك النمروذ فأذلَّه الله ببعوضة، وفرعون فأغرقه الله وأهلك جنوده، وقارون فخسف به وبماله وبأهله الأرض.


وقد قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:" إن الذنوب ثلاثة أقسام: ذنوب جبروتية، وذنوب إبليسية، وذنوب حيوانية. " اهـ


اقتباس:==================== الحاشية ===================

(1) قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي الجليل:" الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار". رواه مسلم في صحيحه، وابن حبان، وأبو داود، وابن ماجه بسندهم عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعا يقول الله الكبرياء - الحديث، لكن لفظ ابن ماجه: " في جهنم"، وأبي داود: " قذفته في النار"، ومسلم: "عذبته". ورواه الحاكم بلفظ:" الكبرياء ردائي فمن نازعني ردائي قصمته". وقال: صحيح على شرط مسلم. وممن أخرجه بلفظ الترجمة القضاعي عن أبي هريرة بزيادة: " يقول الله". وللحكيم الترمذي عن أنس رفعه بلفظ: يقول الله عز وجل: " لي العظمة والكبرياء والفخر والقدر سري فمن نازعني واحدة منهن كببته في النار". وروى ابن ماجه بلفظ: " الكبرياء ردائي والعز إزاري من نازعني في شيء منهما عذبته". انظر كشف الخفاء للعجلوني الحديث رقم 1912.‏

(2) : فيجب علينا أن نرى أنفسنا دون إخواننا في المقام، لا أنا نرى لنا مقاما فوقهم، كما يجب علينا أن نتنازل لهم منه كما هو ظاهر لفظ التواضع. وهذا الأمر يحتاج من يريد العمل به إلى شيخ عارف بالله تعالى ، مخلص، عامل عالم، يخليه من كل خلق ذميم، ويحليه بهذا الخلق الكريم وأمثاله، وذلك بالرياضة والمجاهدة، والتربية العرفانية.

(3) : قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ( من تواضع لله رفعه الله ). رواه أحمد، وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري بزيادة: " به درجة ومن تكبر وضعه الله "- الحديث، وأخرجه أبو يعلى وأحمد بلفظ: ( ومن قنع أغناه الله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله)، وأسنده الديلمي عن عمر بلفظ: ( فهو في نفسه صغير وفي أعين الناس عظيم) ، ورواه أبو الشيخ عن معاذ بلفظ: ( من تواضع تخشعا لله رفعه الله ومن تطاول تعظما وضعه الله )، وفي تاريخ ابن عساكر عن طلحة بن عبيد الله أن التواضع لله تبارك وتعالى الرضى بالدون من المجالس انتهى. انظر: كشف الخفاء للعجلوني - الحديث رقم 2445.



(يتبع إن شاء الله تعالى مع: فالذنوب الجبروتية: ..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:23 PM

"فالذنوب الجبروتية: هي أن يدَّعي العبد أنَّ له صفةً من صفات الربِّ سبحانه مثل العزة، والعظمة، والكبرياء، والقدرة النافذة، والملك ؛ فمن ادَّعى ذلك فقد شارك الربَّ سبحانه وتعالى في صفاته.


وخير علاجٍ للمتكبِّر أن يشهد في نفسه أن أصله نطفة قذرة، وأنه يجري من مجرى البول مرتين، وأنه يحمل الجيفة في بطنه ونهايته يرقد في التراب، وترتع فيه الديدان، وتأكله الأرض، وينفضح يوم العرض، ويكفينا أنه إذا حبس فيه البول ذَلّ، وإذا تحرَّك عليه عرق الصداع استغاث!!.


قال الإمام علي كرم الله وجهه:" عجباً لابن آدم تقتله شرقة، وتؤلمه بقة، وتنته عرقة، فكيف يتكبَّر؟!.


أما الذنوب الإبليسية: فأساسها الحسد، وحب الرئاسة، وحب الذات. وهذه الأمراض يعسر علاجها في أصحابها إلا من سبقت لهم العناية (1) ، فإن الحسد مرض في النفس، وليس للمحسود جناية صدرت منه للحاسد، ولكنه مرضٌ خبيثٌ علاجه صعب، ولم يصدر من سيدنا آدم أي أذى لإبليس حتى صدر منه ذلك، وهكذا حب الرئاسة.


وبقية الأمراض والذنوب الحيوانية هي ما تكون بدافع الشهوة، وقاهر الطبع، والفطرة، وذلك مثل السرقة والزنا، وكل داعٍ لها شهوة في الإنسان؛ مثلاً: إذا جاع الإنسان طلب الأكل، وإذا ثارت شهوته طلب النكاح، فيحكم داعي الشهوة بتسليط الحظ على نور عقله، فيقع في الذنب، فإذا تاب تاب الله عليه وقبله، لأنه أعلم بالعوامل الدافعة في العبد.


ومن أراد أن يشهد نور " المتكبِّر " يتجلَّى له في نفسه حتى يتخلَّق بهذا الاسم، ويكون له النصيب الأوفر، والحظ الأكبر، فعليه أن يزهد في الدنيا والآخرة (2) ، وفي كل مقام ومرتبة، وتصريف وتشريف، ويقبل على الله بالكلية معرضاً عن كل البريَّة، فيتكبر على كل شيء في الكون يريد ان يغرَّه أو يحجبه عن المكوِّن، ولا يرى التواضع إلا لله تعالى (3) ؛ فيحتقر كل شيء بالنسبة لعزِّ مولاه، حتى لو التفت إلى الجنة لا يذوق سر "المتكبر".


والزاهد في الدنيا لأجل الآخرة إنما هو تاجر، يبيع العاجل بالآجل، فما هي إلا معاملة ومعاوضة، ولكن العارف الزاهد: هو الذي لا يلتفت إلى الآخرة لأنه رأى في مولاه الكمالات الباهرة.


ومن استعبدته شهوة المأكل والمشرب ولو كان ذلك العبد دائم الأذكار فهو حقير الهمة لا يعرف سر المتكبر.


ورد في الحديث :" الدنيا حرامٌ على أهل الآخرة، والآخرة حرامٌ على أهل الدنيا، والدنيا والآخرة حرام على أهل الله تعالى (4) " .


فإذا ظفرت بزاهد في الأكوان، عارفٍ بأسرار الجنان، فاتَّبع نهجه، واعمل بنصحه. وقد أشار لذلك الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:




غيري يميل إلى الجنان ويرغب=وأنا الذي أفرُّ منها وأرهبُ
الكلُّ طمعاً في الجنان تعبّدوا=وأنا القتيل بحبه لا تعجبوا
نار الجحيم مع الرضا هي جنتي=أما النعيم بغيره لا أرغب

1
2
3غيري يميل إلى الجنان iiويرغب وأنـا الـذي أفــرُّ منـهـا iiوأرهــبُ
الكـلُّ طمعـاً فـي الجنـان iiتعبّـدوا وأنــا القتـيـل بحـبـه لا iiتعجـبـوا
نار الجحيم مع الرضا هي جنتي أمــا النعـيـم بـغـيـره لا iiأرغـــب




الدُّعـــــاءُ


"إلهي ... أنت المتكبر، وكل شيء سواك ذليلٌ حقير. تجلَّ لي حتى تخضع قواي وتتواضع حقائقي فأكون لك عبداً وأنت لي سيداً، وهذا هو الشرف الأعلى، حتى أزهد في كل شيء سواك، فلا أرى عظيماً ولا كبيراً غيرك، فأفرَّ من نفسي، وأفرَّ من آفاقي كلها، حتى من الجنة والمراتب والمقامات، فأتكبَّر على نفسي، وعلى إبليس، وعلى الكفار والعصاة، وعلى كل ما يحجبني عنك حتى أصل إليك فأفهم سرَّ المتكبر ويكون لي منه النصيب الأكبر، إنك على كل شيء قدير وصلى لله تعالىعلى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم". " اهـ


اقتباس:==================== الحاشية ===================

(1) : أي الذين سبقت لهم من الله العناية والتوفيق فجمعهم بالعارفين به سبحانه، والمربين المخلصين من شيوخ التربية ، ليهذِّبوا نفسه، ويطهِّروا قلبه ، ويرقوا بروحه إلى معارج الكمال، عند ذلك يشفى من تلك الأمراض والآفات المهلكة للقلب والروح والبدن في الحال والمال والمآل إن لم يتدارك الله العبد برحمته، فعليك يا أخي الكريم بلقاء أحباب الله ، ومجالستهم، ومحبتهم، والأخذ عنهم، ومدارسة العلم والعمل معهم، وإلا فلا تطمع أن تخلص نفسك، وتنجو من آفات قلبك، وأمراض روحك، وفقنا الله وإياك للقاء أحبابه، وأمدنا بإمداداتهم، ونفعنا بهم وببركاتهم، ونظراتهم، ونفحنا من نفحاتهم بجاه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نحن ومن قال: آمين.


(2) : وقد أمرنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نزهد في الدنيا بقلوبنا ونرضى منها بالقليل اقتداء بجمهور الأنبياء والأولياء، ونرغب جميع إخواننا في ذلك، روى الترمذي مرفوعا: ( ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا هو أن لا تكون بما في يدك أوثق مما في يد الله تعالى وأن تكون في ثواب المصيبة إذ أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك). وخرج بقولنا بالقلب الزهد فيها باليد مع تعلق القلب بها، فليس ذلك هو الزهد المشروع. ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ عظيم ما فوقه شيخ في عصره يسلك به حتى يخرجه من ظلمة حب الدنيا إلى نور حب الآخرة ويريها له كأنها رأى عين، وهناك يزهد في الدنيا وجميع شهواتها المكروهة حين يرى حجابها له عن ربه مع فنائها وانقطاعها وعدم نظر ربه لها، كما ورد: "إن الله تعالى منذ خلق الدنيا لم ينظر إليها هوانا بها" ومن التخلق باسمه تعالى المتكبر: أن تتكبر على كلِّ متكبر جبار، فإن التكبر عليهم تواضع، وأن ترفع همتك عن كل مخلوق، ولا يتم لك هذا التخلق حتى تتواضع لكبريائه، وتخضع لحكمه وقضائه، حتى يظهر تواضعك بين أبناء جنسك، فمن تواضع دون قدره رفعه الله فوق قدره، ومن رفع نفسه وضعه الله، ومن تكبر قصمه الله.


(3) : والتعلق بهذا الاسم: يكون بالتواضع لكبريائه، والخضوع تحت مجاري أقداره، وهو مقابلةُ ذلِّ العبودية وخضوعها لكبرياء الربوبية وعلوّها، فينادي من كوة الذل والخضوع: يا متكبر!! اجعلني من المتواضعين لكبريائك، الخاضعين لحكمك وقضائك. والتحقق به: أن يكون أمرك كله بالله، وتتحقق بالفهم عن الله، فإن تجلى فيك باسمه (المتكبر) تهت على الوجود، وإن ردّك إلى وصفك عطّل ذلّك ذلّ اليهود.


(4) : قوله صلى الله عليه وآله وسلم:" الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا، والدنيا والآخرة حرام على أهل الله " رواه الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس ، ورمز السيوطي لحسنه. انظر: الجامع الصغير – الحديث رقم 4269." اهـ




(يتبع إن شاء الله تعالى مع: الخَالِقُ جَلَّ جَلاَلُهُ ..... )

عبدالقادر حمود 09-06-2008 05:24 PM

الخَالِقُ جَلَّ جَلاَلُهُ


"هو الذي قدَّر الأشياء، وهي في طوايا العدم، وكمَّلها بمحض الجود والكرم، وأبرزها وفق المشيئة، ورتَّبها على الحكمة الإلهية.


واعلم أن من أسماء الله تعالى ما تكون لله تعالى حقيقة، وللعبد من طريق المجاز، وهي أكثر معاني الأسماء والصفات. ومنها ما تكون للعبد حقيقة، وللحق من باب التجوُّز والتأويل.


فالذي لله تعالى: اسمه"الخالق" فإنه الذي قدِّر الأشياء على وفق العلم، وأبرزها على نظام الحكمة.
ومن الأسماء التي هي للعبد حقيقة، وللحقِّ من باب المجاز ؛ مثل اسمه"الصبور، الشكور، الوكيل"؛ فالصبر صفة للعبد ثابتة، والشكر جمالٌ للعبد مؤكد لأنه يشكر المنعم المعطي، وأما "الوكيل" فهو من توكِّلُُ على شيء لك فينوب عنك في مباشرته كأنك مالك أصلي، وهو نائبٌ عنك، وليس ذلك إلا للعبد.


فأما اسمه تعالى "الخالق" فهو من الأسماء التي لا قدم فيها للمخلوق إلا من باب التجوُّز والتأويل (1) ، فإنه مهما كان للعبد آثار في الوجود ومعارف في الشهود فما هي إلا من مولاه بمحض الجود، قال تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } (2) .


يعني: أن كل عمل من أي مخلوق من الملائكة أو الإنس أو الجن، أو العناصر، فالكلُّ مخلوق لله ومن اعتقد أن أحداً يخلق غير الله، فقد كفر...!. (3)


وقد زلَّ المعتزلة في هذا الموطن حيث أثبتوا للعبد أنه يخلق أفعال نفسه الاختيارية، وهذا شركٌ خفي - غفر الله لهم - (4) .


وقد قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:" إن أهل السنة خافوا من الله فسلموا، والمعتزلة خافوا على الله حيث لم ينسبوا إليه ظلماً للعباد، فقالوا: إن العبد يخلق أفعال نفسه؛ فيحاسبه الله عليها، ولكن العبد ليس له مع الله شيء، وليس له ملك اغتصبه منه ربه، حتى يدَّعي أنه مظلوم، فالعبد وما ملكت يداه لسيده، وهو الحكيم البصير، الذي لا يُسأل عما يفعل".


فإن كل حقيقة في الوجود أفاض عليها الحق كمالها اللائق بها، والوجود مثل شجرة، ففي الشجرة ثمار محترمة للادِّخار والحفظ، وفيها خشب للنار والوقود، فلا يليق للخشب أن يعترض ويقول: خلقتني خشباً؟ وخلقت غيري ثمرا؟.


وقد يمنح الله أنوار اسمه:"الخالق" لعبد من عباده المخلصين فيعطيه كلمة "كن" فيبرز على يديه شؤوناً تدلُّه على الخلاَّق العظيم، وذلك يكون للعبد المطيع الأمين، السميع، الواقف على الحدود، المستمدّ من خزانة الجود .


وقد أعطى الحقّ لسيدنا عيسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – هذا السر، حيث قال: { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} (5) .


وقد يكون هذا العطاء للأولياء من باب الوراثة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( العلماء ورثة الأنبياء) (6) ).


واعلم أن المخلوقات أقسام؛ منها: ما لا يدخل تحت تصرُّف العبد مثل الكواكب والأفلاك.


ومنها: ما يدخل تحت تصرفه وهي سياسة نفسه وجهادها، حتى يتجلَّى له حقائق عليّة تبرز على يديه، لم يكن لها مثال سبق من فتوحات ومعارف، وتصرفات؛ فيكون على يديه أمور لم يسبقه بها أحدٌ فيفهم من معنى نور اسمه"الخالق" ما لم يفهمه غيره.


وخير من تجلَّى له هذا الإسم على أكمل مثال هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه أتى في الوجود بما لم يسبقه إليه أحد من أخلاق عالية، ومعارف غالية، ورحمة واسعة، وأنوار لامعة، فالمتابع لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يشرق له نور اسمه"الخلاَّق" فيتجمَّل بالأخلاق.


الدُّعـــــــاءُ


" إلهي.... أنت الخالق، الذي قدَّرت الأمور ، ودبَّرت الأشياء وهي في ظلام العدم لأنك النور، خلقت العباد، وخلقت فيهم الأسباب وهي العقل والجوارح، فما يبرز منهم فعل إلا بمشيئتك، ولا يصدر عنهم أمرٌ إلا بإرادتك وقدرتك. فامنحنا عيون التوحيد حتى نشهد الخلاَّق متجلياً منفذ المراد في النفس والآفاق، وامنحنا قوةً نسوس بها أنفسنا حتى تطهّرنا من رجس الأغيار، وتتجلَّى من اسمك "الخالق" الأنوار، إنك على كل شيء قدير. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ".


اقتباس:====================== الحاشية =====================


(1) : قال العلامة المرحوم الشيخ محمد بن كمال الخطيب رحمه الله تعالى رحمة الأبرار: إتقان عمله، وحسن صنيعه، وأن يصلح في الأرض مستعمراً، ويقاوم الفساد والمفسدين مجاهداً مضحياً، وأن يقيم الحق في أرض الله، ويفعل الخير ما يرضي الله، فيزداد بذلك قربى من رفيع الدرجات جلَّ سبحانه، وهو الغني عن عباده، وله المنة والفضل فيما أعطى ومنع، أما الخالق فقد رجع حاصله إلى العلم، وأما البارىء فقد رجع حاصله إلى القدرة، فحظ العبد من الخالق: تكوين القوة النظرية بمعرفة الحقائق، واكتساب العلم، وحظُّه من البارىء : تكميل القوة العملية بمحاسن الأخلاق، وأرى أن الخلق بتكوينه أشمل دلالة لما يلازمه من ضرورة العلم، والقدرة، والإرادة جميعاً، وبهذا استخلف الخلاق الإنسان في أرضه من بين خلائقه، واستعمركم فيها، قائلاً: { لننظر كيف تعملون}، فإن قوام العمل علم وقدرة وإرادة، وعلى أساس ذلك الجزاء، وحياة الخلود يوم القيامة، فالله تعالى خلاَّق، والإنسان عامل كادح، { والله خلقكم وما تعملون} ، أعدَّ لكم مؤهلاته وأسبابه، ومنحكم له الحرية، وحمَّلكم التبعة، قائلاً: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، وبهذا فإن من عرف نفسه عرف ربه خالقه، ومن عرف الخلاق عرف قدره، ووقف موقف العبودية لله وحده، وإن معرفة الإنسان المخلوق بخالقه توجب عليه شكره، وأداء حقه، والإخلاص بعبادته وحده، وقد أقام له من دلائل آياته فيما خلق ما يجعل عبادة الله غاية الكمال، وسبيل التسامي إلى رفيع الدرجات، واستحقاق الخلود والإنعام من قدرة وإرادة، وعلم ، يمكنه من العمل وإتقان الصنع، وحظ العبد منه أن يعرف منة الخالق بما أنعم عليه من الخلق، وما أعطاه وما آتاه من فضله، وأن يديم شكره، ويستزيد بذلك من فضله، وما قدر عليه ونقصه منه، وابتلاه بمصائبه، فإن عليه مع الصبر الرضا، وأن يأخذ من الأسباب ما فيه المنة فضلاً من الله تعالى كالدواء وهو يتكل على ربه ، وما أعجزه لم ييأس منه { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}، فإن لله تعالى خوارق العادات، مع حكمته، وما يهيؤه من الأسباب، على مثل قوله تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} .

(2) : سورة الصافات – الآية 96.

(3) : والعجب بل والأعجب من هذا أن كثيراً من الناس في أيامنا هذه يتبعون المعتزلة في قولهم من باب "خالف تعرف" بل يحتجون أن الإسلام دين العقل، وكأنه لم يتبع العقل إلا فرقة المعتزلة !!، فدسَّ هؤلاء في مناهجهم الدراسية خاصة منهاج التربية الدينية الإسلامية الكثير من آراء المعتزلة ليسمِّموا بها عقول الأبناء، غير آبهين بخطورة تلك الآراء، وهذا بدون شك إحياء غير معلن لهذا المذهب الذي تصدى له الأئمة في وقت كان له صولة ودولة... ولكن ما ذا نقول ومن نحذِّر ؟، وقد اختلطت الأمور وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وعاد الدين غريباً كما بدأ وتولَّى الأمر من ليس له بأهل، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(4) : وذلك مصداقاً للحديث الشريف الذي رواه البخاري بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَه".

(5) : سورة آل عمران – الآية 49.

(6) : قطعة من حديث: رواه أبو داود واللفظ له بسنده عن دَاوُدَ بنِ جَمِيلٍ عن كَثِيرِ بنِ قَيْسٍ قالَ: "كُنْتُ جَالِساً مَعَ أبي الدّرْدَاءِ في مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فقالَ: يَا أبَا الدّرْدَاءِ إنّي جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أنّكَ تُحَدّثُهُ عنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَا جَئْتُ لِحَاجَةٍ. قالَ: فإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَطْلُبُ فِيهِ عِلْماً سَلَك الله بِهِ طَرِيقاً مِنْ طُرُقِ الْجَنّةِ، وَإِنّ المَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا رِضاً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْحِيَتَانِ في جَوفِ الْمَاءِ، وَإنّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ علَى سَائِرِ الْكَواكِبِ، وَإِنّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ، وَإنّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرّثُوا دِينَاراً وَلا دِرْهَماً، وَرّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أخَذَهُ أخَذَ بِحَظّ وَافِرٍ".

قال العلامة العجلوني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء). رواه الإمام أحمد في المسند، والأربعة وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعا بزيادة: " إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم" – الحديث. وصححه ابن حبان، والحاكم، وغيرهما. وحسَّنه حمزة الكتاني، وضعَّفه غيرهم لاضطراب سنده، لكن له شواهد، ولذا قال الحافظ: له طرق يعرف بها أن للحديث أصلاً.

ورواه الديلمي عن البراء بن عازب بلفظ الترجمة وبزيادة: " يحبهم أهل السماء وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا". ورواه أيضا بلا سند عن أنس بلفظها، وبزيادة: " وإنما العالم من عمل بعلمه"، وقال النجم وروى أبو يعلى عن علي: "العلماء مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء وورثتي وورثة الأنبياء". انظر: العجلوني - كشف الخفاء - الحديث رقم 1745." اهـ




(يتبع إن شاء الله تعالى مع الإسم الشريف: البَارِىءُ جَلَّ جَلالُهُ..... )


الساعة الآن 12:56 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى