القهوة العربية معشوقة العرب



القهوة لغةً الخمر سميت بذلك لأنها (تقهي)، أي تذهب بشهوة الطعام، وهي أيضاً اللبن المحض، أما القهوة اصطلاحاً، فهي شراب البن المغلي وأهل البادية والأرياف، وبعض أهل المدن يسمونها الكَهوة، واستمدت اسمها من العربية كل لغات العالم.
وفي سبب تسميتها عدة آراء، أولها سميت بالقهوة تشبيهاً لها بالخمرة، وهذا هو الاشتقاق اللغوي، وهذه التسمية هي التي جعلت رجال الدين في بداية استخدامها يقومون بتحريمها ومحاربتها. وثانيها أن تسميتها بالقهوة مشتقة من علم الإقهاء العربية، وتعني كره الطعام والابتعاد عنه. وثالثها أنها سميت باسم مقاطعة "كوفا" أو "كفا" في جنوب الحبشة، حيث كانت نباتاً برياً ينمو من تلقاء نفسه، وقد انتشر هذا المشروب من الحبشة إلى غيرها، عن طريق اليمن وباقي الأصقاع الواقعة في جنوب بلاد العرب، ومن بلاد العرب انتشر إلى بقية إنحاء العالم.

لقد حظيت القهوة العربية باحترام كبير في أوساط المجتمعات العربية البدوية والريفية والحضرية، وتكاد تكون المشروب الوحيد الذي يغني البدوي عن كل مشروب، فقد يستغني البدوي في الماضي عن طعامه وشرابه، ولكنه لا يستغني عن تعاطي القهوة المرة، فهي شرابه المفضل، ولشدة احترام البدوي، وتقديسه للقهوة جعلهم يحلفون بها فيقولون: (وحياة هالكهوة ومن شربها من أجاويد الله)، ومع أن الحلف بغير الله هو نوع من أنواع الشرك بالله، إلا أنهم لا يعطون لهذا اهتماماً، بل بترسب في وجدانهم حب القهوة وتقديسها.

وخلال أكثر من أربعة قرون بقيت القهوة العربية المادة الأفضل التي يكرم بها العربي ضيفه عند قدومه وقبل الطعام وبعده. يشربونها في مجالسهم ومضافاتهم ودواوينهم، ولهم في جودة صنعها وتقديمها وشربها، وقيل في وصف مجالسها الشعر والأمثال والحكم، يقول الشاعر البدوي واصفاً مجلس القهوة:

ياماحلا الفنجان مع سيحة البال/ وبمجلس مابه نفوس ثجيله/ هــذا ولـد عـم وهـــذا ولـد خـال/ وهــذا رفــيج مـا لكينا مثيله.

لا أروع ولا أجمل من هذا الوصف لفنجان القهوة عندما يشربه الإنسان ويكون مرتاح البال وبمجلس لا يعكر صفوه نفوس ثقيلة تعكر هكذا جلسة رومانسية، ولقد أضاف الشاعر البدوي إلى طيب فنجان القهوة لمسة اجتماعية، فيربط طيب طعمها بطيب مجلسها، وخفة أرواح الجالسين في ديوانها العام يجتمع أولاد عم وأولاد خال ورفاق درب، في جلسة طرب ومودة لا هم فيها.

إن للقهوة العربية في نفوس العرب في بواديهم وأريافهم مكانة لا تدانيها مكانة، فهي لديهم ذات صلة وثيقة بالإحساس القومي العربي، الذي يتمسكون به من أدوات القهوة أشد التمسك باعتبارهم عرباً أقحاح، فهي تكاد تكون المشروب القومي للأمة العربية، لقد ضربت القهوة العربية جذورها في وجدان المجتمع العربي منذ مئات السنين، وظلَّت شامخة البنيان متحدية كل قوى التغيير والتطوير حتى الآن، فهي لم تؤدِ وظيفة اجتماعية فحسب، وإنما جعلت كل الوظائف الاجتماعية تتمحور حولها حتى ارتبطت بكل المواقف، والأوضاع الاجتماعية المختلفة، فهي ترتبط بالضيافة والكرم والالتزام الشخصي والجماعي، بأنفاسها الحارة نلاقي ضيوفنا، وبعبق هيلها نودعهم، وبحضرتها تتهادى الآراء والأفكار، ونحل كثيراً من قضايانا اليومية، ورشف فنجان القهوة يتضمن توقيعاً على اتفاق مصالحة، إذا كان هناك خلاف، أو فتح بوابة الألفة لتعايش أكثر دفئاً وحميمة بين الناس.

كما أن شرب فنجان من القهوة قد يشرط بتلبية طلب ما من صاحب المضافة أو الديوان أو البيت، فكثيراً ما تتم في مجالس القهوة العربية في المضافات اتفاقات المصاهرة، وعقود الزواج، وفض المنازعات، فكم من المشاكل التي استعصت عن الحل تم حلها عن طريق فنجان قهوة وكم من قضية زواج قوبلت بالرفض تم تذليلها عن طريق فنجان قهوة عربية، فهي أكثر من شراب وترتبط بمختلف شؤون الحياة وقد تستغل أحياناً، وهذا كان في الماضي للتحريض على أخذ الثأر من أعداء القبيلة، أو المعتدين عليها، أو على أعـراض أسـرها، حيث يصب شيخ القبيلة فـي مضافته فنجان قهوة بيـده، ومن يشربه من شباب القبيلة أولاًً، فهو من نذر نفسه بأخذ ثأر القبيلة، وقد تستخدم لتنبه أحد أفراد القبيلة إلى عيب فيه، أو استفزازه للتعرف على خلل أصاب سلوكه أو سلوك عائلته، بأن يستثني من يصب القهوة رجلاً من الجالسين، ويتعداه إلى غيره، فعلى هذا الشخص عندها أن يبحث عن السبب، كما تستخدم لعقاب المجرمين والمسيئين أو الشاذين والخارجين عن فضائل القبيلة، أو المقصرين بحقها، وذلك بحرمانهم من ارتياد المضافة، أو الديوان، وهي عقوبة صارمة وقاسية جداً.

وتلخيصاً لما سبق فإن القهوة العربية ارتبطت بمختلف شؤون الحياة الاجتماعية للجماعة القبلية، وشربها عادة اجتماعية تنطوي على رموز ومعانٍ بالغة في الأهمية في حياتهم، فهي التي تصور طبيعة العلاقات الاجتماعية بينهم، وهي التي تكشف عن القيم السائدة عندهم بطريقة عفوية وتلقائية، وهي أداة دلال القهوة المرة للتعبير عن مشاعرهم في مناسبات عديدة، وهي المحور الذي تدور عليه حياتهم اليومية،

كما أنها تشكل عنصراً ثقافياً موروثاً لا يستغني عنه على الرغم من التطورات التكنولوجية، والتغيرات الثقافية التي طرأت على المجتمع، فهي تتصدر باستمرار المجالس البدوية، وتشكل نسقاً ثقافياً مشتركاً يطبع عادات وتقاليد المجتمع بطابع معين، فهي القاسم المشترك لكل عنصر ثقافي في المجتمع البدوي.

لقد وازن المجتمع القبلي ما بين قيمة القهوة العربية المعنوية، وقيمة الرجال المشاهير، فإذا ما توفي شيخ قبيلة ما، أو أحد وجهائها، أو أحد أعيان المجتمع قلبوا دلال القهوة على وجهها، وحرموا شربها فترة من الزمن، كتعبير عن تقديرهم للراحل المتوفى، وإخلاصهم له، وعدم استغنائهم عن رأيه ومشورته، فمكانته بينهم لا تقل عن مكانة القهوة التي لا يستغنون عنها.

وللمنزلة الكـبيرة التي تحظى بها القهوة فـي أوسـاط المجتمع الـبدوي قديماً، فإنهـم كانـوا يحافـظون علـى بـقاياها (الحثل) من أن تدوسه الأقدام، فيحفرون حفرة بعيدة عن مرور الناس، ويدفنون الحثل فيها، ولعل ذلك راجع إلى خوفهم من أن تزول هذه النعمة التي تمثل الجاه والنفوذ، نتيجة رميها عن الأرض وسير الناس عليها، أما أهل الأرياف والمدن فإنهم لا يهتمون بذلك إلى حد ما، ورغم التقدم والتطور الذي أصاب الكثير من مناحي الحياة العربية، فقد بقيت القهوة المرة شراب العربي المفضل، إنها مربط إلهامه وطربه، ومبدد همومه وأحزانه ولها عنده مقام رفيع.

ولقد وصل اعتزاز البدوي بالقهوة إلى درجة أن ما عداها هي والتتن (الدخان) فإن كل الأمور تهون عليه وكما يقول الشاعر:

ماطول كهوة وتتن/ كل الأمور تهون/ فنجان عكب المسا/ ونـعمر الغلـــيون

وكان الأمراء والشيوخ يتفاخرون بكرمهم وأن مضافاتهم ودواوينهم لا تخلو من القهوة العربية، فهي دوماً تفوح برائحة الهيل، ويحرصون دوماً على جودة صنعها. فهذا الشاعر "عبد الله الفاضل" يفاخر ويقول:

هلي يهل المحمس والبريجي/ وكهوة غيرهم حنظل بريجي/ هلي يل غيمة ألبيها البريجي/ وبيها الروض واجــد والجما.

وللشاعر الرقي الكبير "خلف الكنعان" /1816- 1897/م بيت جميل من العتابا في وصف القهوة يقول فيه:

رماد البن مثل الرجم باني/ وريـح الهيل بالديوان باني/ كلفنا الحـديد بحـمس القهوة المرة معشوقة البدوي بنـي/ ولا يوم افتخرنا عا الجناب.

ولشاعر رقي آخر هو "حجو الملحم" /1807 – 1886/م آبيات جميلة من القصيد البدوي يخاطب بها ساقي القهوة (الكهوجي) ويقول:

هات الحطب ياخليف وأوقد النار/ واني بقلبي حامـي الجـمر مدفـون/ عبود زيد حمسها وكثـََّّر البهار/ لفلك سكاره وعمر لي زاد غليون/ كلط دلالٍ كأنهن وضح البكار/ شريتـهن يـوم النشامـة يعـــيدو.

ولقد غابت معاني القهوة العربية عن أذهان الجيل الجديد ومقالنا هذا يأتي رصداً لتراثنا الشعبي الذي نعتز ونفتخر به حقاً، لقد كانت القهوة العربية خمرة العرب الأصيلة وقد قال الشاعر في حق القهوة:

وخمرنا البن لكن لا نعتقه/ لا سكر فينا ولا أقداحنا كثر.

ويقول شاعر آخر في القهوة:

عزّ (المعازيب) إن تملأ مضافتهم/ يزداد ترحيبهم لوزدت في العدد/ والقــهوة المـرّة بالهــال نكـــهتها/ أكــرم بهـا طـارداً للـهمَّ والنـكدِ.